روبرت زاريتسكي

هزيمة غريبة للولايات المتحدة

27 تموز 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

تصادف هذا الصيف الذكرى الثمانون لسقوط فرنسا. كان ذلك السقوط مفاجئاً وصادماً في آن: بعد ستة أسابيع على اختراق الدبابات الألمانية غابات الآردين الكثيفة في منتصف شهر أيار، فيما كانت تجتاح شمال خط ماجينو، قرر رئيس الحكومة الفرنسية الجديد، المارشال فيليب بيتان، مخاطبة الأمة قائلاً: "ببالغ الحزن والأسى، أعلن عن ضرورة إنهاء الأعمال العدائية". كان قائد عسكري فرنسي واحداً من الذين سمعوا ذلك الخطاب عبر الراديو. إنه محارب قديم في الحرب العالمية الأولى حصد في السابق أوسمة شرف وقد أصرّ على ضرورة متابعة القتال. خلال أسابيع، طرح أدلّة حول الأحداث التي شارك فيها للتو.

تدخل تلك الأحداث في إطار ما سمّاه الكاتب مارك بلوش "موجة غضب عارمة"، ويبقى الكتاب المرتبط بتلك الحقبة، L'Étrange défaite (الهزيمة الغريبة)، من أكثر التحليلات عمقاً حول أسباب انهيار فرنسا. كان بلوش مؤرخاً للأحداث الفرنسية في العصور الوسطى ومعارضاً للقناعات التقليدية الشائعة، وقد طوّر مفهوماً مؤثراً، ولو أنه مبهم، عما سمّاه "العقليات": إنها الهياكل الفكرية والعاطفية التي رسمت رؤية الأجيال السابقة لعالمها بقدر العوامل المادية على الأقل. لا عجب في أن يظن بلوش أن أي تفسير قيّم لهزيمة فرنسا التي لم يتوقعها أحد يتطلب التعمق في عقليات النُخَب السياسية والعسكرية في تلك الفترة.

بعد مرور ثمانين سنة، يقدّم تحقيق بلوش موادّ مفيدة للمؤرخين الذين غرقوا في مشاعرهم المحتدمة في الزمن المعاصر وقد يحاولون فهم هزيمة الولايات المتحدة الصادمة في "حربها" ضد فيروس كورونا الجديد.



أول ظهور علني لترامب بالكمامة منذ أن بدأ الفيروس في اجتياح الولايات المتحدة مركز "والتر ريد" الطبي العسكري الوطني



حرب زائفة

امتدت الحرب الزائفة على ثمانية أشهر، بدءاً من أيلول 1939. خلال هذه الفترة، عمدت فرنسا إلى تجنيد وتعبئة ملايين الرجال. نُقِل المجندون إلى مواقع دفاعية في أنحاء البلد، وكانوا يفتقرون في معظمهم إلى الوسائل العسكرية المرادفة لمعدات الحماية الشخصية اليوم. لقد عانوا من نقص الأحذية العسكرية والبطانيات في ذلك الشتاء الذي كان بارداً على نحو استثنائي، وكانت أقنعة الغاز شحيحة بدرجة مقلقة. حتى أن الضباط رفضوا وضع الأقنعة التي يملكونها أحياناً، وكانت طريقتهم في تدخين السجائر أثناء تجولهم بين الجنود تعكس درجة مفرطة من الثقة بالنفس.

إلى جانب هذه النواقص كلها، برز نقص آخر في القيادات المقنعة. أصدرت الحكومة، بقيادة رئيس الوزراء إدوار دلادييه، تصريحات فارغة بدل تقديم أسباب واضحة ومقنعة للتضحيات المطلوبة من الجنود والمدنيين. كانت الحكومة مُصمّمة على تجنب العواقب المرافقة للحرب المعلنة، لذا أوحت بكل بساطة بأنها تسعى إلى إرساء السلام بوسائل أخرى. في مسرحية La Guerre De Troie N'aura Pas Lieu (حرب طروادة لن تحصل) للكاتب جان جيرودو، يلجأ "هكتور" إلى الدبلوماسية لمنع سقوط طروادة. لم يكن جيرودو أشهر كاتب مسرحي في البلد فحسب، بل كان وزير الإعلام أيضاً.



"الهزيمة الغريبة" لـ مارك بلوش



في بداية العام 1940، سُرّح من الجيش جنود منتمون إلى فئات مهنية معيّنة. وكما يحصل اليوم، حاولت الحكومة في تلك الحقبة أن تضفي أجواءً طبيعية على الحياة اليومية. لم تكن مهمّتها صعبة. كانت مقاهي باريس تعجّ بالناس، وضجّت المسارح بالجماهير، وامتلأت المدرجات الرياضية بالمعجبين، وأعطت المدينة معنىً جديداً للمقولة القديمة: "كلما تغيّر الوضع، تزيد المظاهر المألوفة". في هذه الظروف، لا عجب في أن تصبح أغنية موريس شوفالييه، Paris Will Always Be Paris (باريس ستبقى دوماً باريس)، الأنجح خلال الحرب الزائفة.

بالعودة إلى تلك الحقبة، يلوم بلوش الحكومة على كل ما حصل صراحةً. فشل قادة البلد المُنتخَبون في تقديم "حد أدنى من المعلومات الواضحة والجازمة والضرورية لتبني أي سلوكيات منطقية" للفرنسيين وقصّروا في أداء واجباتهم، وهي "أشنع جريمة قد يرتكبها من يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين". في ما يخص الديمقراطية الفرنسية، كان بلوش لاذعاً في تعليقاته أيضاً. فذكر أن فعالية أي شكل من الحكم، سواء كان ملكياً أو ديمقراطياً، تتأثر دوماً عند الفصل بين القيم المعلنة للنظام القائم والقيم الحقيقية التي يحملها رؤساء ذلك النظام: "تصبح الديمقراطية ضعيفة على نحو بائس وتتدهور المصلحة العامة نتيجةً لذلك إذا لم يخدمها كبار المسؤولين من كل قلبهم".



مارك بلوش



في هذا السياق، اتفق بلوش الديمقراطي الاجتماعي مع السياسي هنري دي كيريليس، المحافظ المتطرف المعاصر له، فقد هاجم هذا الأخير الحكومة بسبب فشلها في حشد الفرنسيين. أعلن كيريليس: "أعتبر التعبئة الأخلاقية في فرنسا أهم شرط لتحقيق النصر. لن ننتصر إلا إذا كنا مستعدين لتقديم التضحيات اللازمة". كان بلوش قاسياً في تقييمه لقادة الجيش بالقدر نفسه. هو لم يكتفِ بإعلان "قلة كفاءتهم الفاضحة"، بل فنّد الأسباب بلا رحمة: "لقد عَلِقت أفكار الحرب الأخيرة في عقولهم لأنها أفكارهم في مرحلة شبابهم. كانت تلك الأيام الطويلة لامعــة على جميع المستويات".

عملياً، عجزت عقليّتهم الجماعية التي رسمتها الحرب الأخيرة عن خوض الحرب اللاحقة بالشكل المناسب. ما عادوا يستطيعون توقّع اختراق الدبابات الألمانية لغابات الآردين وتدميرها للقوات الفرنسية، مثلما عجز أسلافهم عن توقّع تحوّل حرب الحركة في العام 1914 إلى حرب بين الخنادق دامت طوال أربع سنوات لامتناهية. أمام هذا التهديد الجديد، قرر القائد الأعلى الفرنسي عدم تحريك أي ساكن والتصرف بالطرق المألوفة.





دروس مــــن الــــتــــاريــــخ

يستطيع المؤرخون المستقبليون أن يستفيدوا من آخر كتاب غير مُنجَز لبلوش إذا أرادوا تأريخ فشل القادة الأميركيين في توقّع الأزمات الطبية والسياسية الراهنة. حين انضم بلوش إلى المقاومة الفرنسية في بداية العام 1943، كان قد بدأ كتابة Apologie pour l'histoire ou Métier d'historien (اعتذار عن التاريخ أو مهنة المؤرخ)، وهو عبارة عن طرح لامع حول مهنة كتابة التاريخ. أراد بذلك أن يجيب على سؤال طرحه عليه أحد أولاده: "أخبرني يا أبي، ما نفع التاريخ"؟ لكن لم يَعِش بلوش بما يكفي لإنهاء هذا الكتاب: في ربيع العام 1944، قبضت عليه الميليشيا الفرنسية وسلّمته إلى الحزب النازي "شوتزستافيل" الذي عذّبه وأعدمه.

لكن يذكر نصّه غير المكتمل أنّ من يجهل الماضي يسيء فهم الحاضر، وهو يقدّم جواباً إلى ابنه والقراء عموماً. هذا الجواب ينطبق أيضاً على الهزيمة الغريبة التي واجهها حزب سياسي أميركي بارز حين اخترق دونالد ترامب صفوفه وطرح نفسه كمرشح للرئاسة، وعلى وضع أقوى ديمقراطية في العالم حين اجتاح فيروس كورونا الجديد سكانها.





افترض بلوش أن الهياكل المادية والعقلية تتجاوز الظروف التي أنشأتها بأشواط. سيستكشف المؤرخون الأميركيون حتماً هزيمة الجمهوريين المختبئين وراء توقعاتهم التقليدية وفشلهم في توقّع انهيار مبادئ البلد التأسيسية وركائز حزبهم بسبب إدارة ترامب. عجزت الحكومة الأميركية عن رؤية ما وراء المسلّمات العقلية والأنماط السابقة للمكافآت المادية، فواجهت أزمة فيروس كورونا بالطريقة التي واجهت فيها فرنسا ألمانيا المتقدمة باتجاهها: أعلنت فرنسا الحرب من دون التخطيط مسبقاً لأي حالات طارئة محتملة ولم تعترف بحقيقة التهديدات المطروحة أمام الرأي العام وعجزت طبعاً عن إقناعه بتقديم التضحيات.

لكن أضاف بلوش عمقاً جديداً إلى هذه الفكرة القديمة. مثلما تساعدنا دراسة الماضي على فهم الحاضر، يسمح عيش الحاضر بتوضيح أحداث الماضي. فحذر قائلاً: "لا مفر من أن نستنزف قدراتنا بلا جدوى في خضم محاولاتنا لفهم الماضي إذا كنا نجهل الحاضر بالكامل". يعترف بلوش بأنه قرأ وكتب عن المعارك العسكرية الماضية، لكنه لم يدرك معنى الهزيمة الحقيقية قبل أن يعيش شخصياً الواقع المريع الذي خلّفته.

اليوم، قد يفهم الأميركيون حقيقة الوضع أكثر من نظرائهم القدامى الذين شهدوا على فساد أنظمتهم الديمقراطية أو استسلموا للحكم الاستبدادي. أو قد يشعرون بدرجة من التواضع حين يواجهون مستقبلاً دولة تحارب الفيروس الإيديولوجي نفسه أو تستسلم له. وعند النظر إلى الماضي الفرنسي والتطلع إلى المستقبل الأميركي، قد يستخلصون بعض الاستنتاجات القيّمة من مارك بلوش الذي كتب يوماً: "لا يمكن إنقاذ الوضع من دون تقديم بعض التضحيات، ولا وجود للحرية الوطنية بالمعنى الكامل للكلمة ما لم نجتهد نحن لإرسائها".


MISS 3