مايكل فيوكس

أفضل سياسة خارجية للعالم بعد زمن الوباء

28 تموز 2020

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

قد يكون حدث واحد كافياً لإعادة ضبط السياسة الخارجية الأميركية نحو الأفضل أو الأسوأ طوال عقود. أنتجت اعتداءات 11 أيلول الإرهابية مرحلة وجيزة من الوحدة الوطنية والدولية التي كانت تستطيع إطلاق حقبة من التعاون الدولي الوثيق، لكنّ الولايات المتحدة أهدرت تلك الفرصة. بحجّة تجنب أي اعتداءات إرهابية أخرى بهذه الضخامة، شنّ الأميركيون حروباً غير مبررة كلّفتهم حياة آلاف الجنود ومئات آلاف المدنيين، ولا ننسى التكاليف المادية الباهظة للحروب والأضرار الفائقة التي سبّبتها وانعكاسها السلبي على صورة البلد عالمياً. تواجه الولايات المتحدة والعالم أجمع تداعيات تلك الأحداث حتى الآن، رغم مرور حوالى عشرين سنة.

لم تقتصر تقلبات السياسة الخارجية الأميركية على الحروب في أفغانستان والعراق. كانت "أجندة الحرية" الجديدة التي طرحتها واشنطن لنشر الديموقراطية في أنحاء العالم، ولو بالقوة عند الحاجة، تحمل رؤية عالمية. جعلت الولايات المتحدة الإرهاب محور تركيز المنظمات الدولية، بدءاً من مجموعة الدول الصناعية السبع وحلف الناتو وصولاً إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة. خضعت الولايات المتحدة نفسها لنوع من إعادة الهيكلة: بعد سنة على هجوم 11 أيلول، أعاد الكونغرس تنظيم 20 وكالة حكومية تقريباً عن طريق وزارة الأمن الداخلي المستجدة. وبعد صدور تقرير لجنة أحداث 11 أيلول في العام 2004، أنشأ الكونغرس "مكتب مدير الاستخبارات الوطنية" للإشراف على 17 وكالة استخبارية محلياً. كذلك، اعتبر الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن اعتداءات 11 أيلول أحد أسباب إطلاق برامج جديدة للمساعدات الخارجية، على غرار "مؤسسة تحدي الألفية" و"خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز" (كان هذا التطور إيجابياً على عكس الحروب الكارثية).

قد يسبب الوباء الحالي تغيرات إضافية في واشنطن. يهاجم فيروس كورونا الجديد جميع الناس اليوم وقد تأثر به السكان حول العالم، فأصابهم الفيروس مباشرةً أو واجهوا بسببه عواقب اجتماعية واقتصادية. يجب أن يتحرك الليبراليون الداعمون للتعاون الدولي بسرعة هذه المرة لإرساء نظام جديد لأن القوى غير الليبرالية تحاول تحقيق الهدف نفسه.

لطالما اعتبر صانعو السياسة والخبراء الليبراليون أن أكبر التهديدات التي يواجهها البلد، بما في ذلك الأوبئة والتغير المناخي، تفرض تحولات دائمة وتتطلب حلولاً مختلفة، على رأسها الديبلوماسية والتعددية وسياسة خارجية تُمكّن البلدان الأخرى من معالجة مشاكلها المحلية قبل أن تمتد إلى ما وراء حدودها. لقد فشلت واشنطن في تطبيق هذه النصيحة بطريقة مستدامة وبالمستوى المطلوب، وتبرز اليوم عواقب قاتمة لذلك الفشل. مع ذلك، يستطيع القادة الأميركيون تصحيح ذلك الخطأ في المرحلة المقبلة. لكن يجب أن يتحركوا سريعاً لأن لحظة الوضوح الراهنة لن تدوم إلى الأبد وستحاول جهات أخرى دفع البلد والعالم في اتجاهات أكثر خطورة. بالإضافة إلى الديماغوجيين والحكام الدكتاتوريين، يجب أن يتعامل الليبراليون الداعمون للتعاون الدولي أيضاً مع المشككين بالنوايا الحسنة. قد يظن البعض في الولايات المتحدة والعالم أجمع أن الرد المناسب على الوباء لا يقضي بتقوية الهيئات العالمية بل بتجريدها من السلطات المحدودة التي تملكها. داخل الولايات المتحدة، يدعو البعض إلى التركيز على التعافي محلياً بدل إطلاق حملات طموحة لإعادة رسم معالم العالم. لكن لن يدوم ذلك التعافي إذا تجاهل البلد المشاكل الحاصلة وراء حدوده. فيما يسعى الأميركيون إلى إصلاح بلدهم، يجب أن يأخذوا سياستهم الخارجية في اتجاه جديد. لكن يزداد الوضع تعقيداً لأن الوباء لم ينتج أثراً وطنياً جامعاً كما فعل هجوم 11 أيلول. بل يؤجج تعامل ترامب مع الفيروس الانقسامات بين الأميركيين بدل توحيدهم. في الحد الأدنى، يجب أن تنشأ إدارة جديدة في العام 2021 لطرح سياسة خارجية أميركية مختلفة. إنها خطوة ممكنة وضرورية.

القوة في الأرقام

على المستوى الدولي، يتعين على الإدارة الأميركية المقبلة أن تدافع عن المؤسسات متعددة الجوانب التي تتعرض للضغوط وتعمل على تحديثها. وافق الاتحاد الأوروبي للتو على حزمة إنقاذية كبرى لمساعدة الدول الأعضاء على استرجاع توازنها. لكن في ظل انتشار فيروس كورونا وتنفيذ خطة "بريكست" والتراجع الديموقراطي الحاصل في المجر وبولندا، لا يزال مستقبل هذه الكتلة غير مؤكد. في غضون ذلك، تواجه وكالات الأمم المتحدة مهمة شاقة تقضي بالحد من الفقر ودعم حقوق الإنسان ومساعدة الأعداد القياسية من المهاجرين واللاجئين تزامناً مع تفشي وباء "كوفيد-19". تسود خلافات ومشاكل جوهرية داخل هذه المؤسسات، لكنها تواجه التحدي الأساسي نفسه: لا تستطيع أي هيئة دولية أن تعمل بالشكل المناسب إذا لم تلعب أقوى دول العالم دورها عبر الاستعانة بكبار المسؤولين واستثمار الموارد التي تحتاج إليها الإصلاحات الحقيقية. تعرّضت منظمة الصحة الدولية مثلاً لانتقادات لاذعة بسبب قراراتها غير الحاسمة خلال انتشار الوباء. لكن كتب جيريمي كونينديك، مسؤول مرموق سابق في "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، أن منظمة الصحة العالمية تضطر في نهاية المطاف للرضوخ للدول الأعضاء فيها، وقد حاصرتها تلك الدول حين أعطتها "تفويضاً عالمياً واسعاً مقابل ميزانية سنوية قيمتها 2.2 مليار دولار، أي أقل من ميزانية المستشفيات الأميركية الكبرى".

على الولايات المتحدة أن تؤدي دور القيادة لتقوية هذه المؤسسات. تحتاج منظمة الصحة العالمية إلى تمويل إضافي ويجب أن تكتسب القدرة على تسريع خطط التعامل مع الأوبئة. كذلك، يجب أن تحث الولايات المتحدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على تسهيل تعافي الاقتصاد العالمي بما يضمن الحد من مظاهر اللامساواة بين البلدان وفي داخلها. ويتعين عليها أيضاً أن تتابع دعم سياسات الهجرة المنتظمة والآمنة عبر "الاتفاق العالمي من أجل الهجرة" (اتفاق بين الحكومات يحظى بدعم الجمعية العامة للأمم المتحدة)، وتعقد مجموعة جديدة من الاتفاقيات المناخية العالمية، وتضاعف جهودها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتُحوّل "مجتمع الديموقراطيات" (هيئة دولية تأسست في العام 2000) إلى مؤسسة قوية تُعنى بتنسيق الجهود بين الحكومات الديموقراطية. كذلك، تفرض التحديات المطروحة، على غرار الأمن الإلكتروني وحوكمة الإنترنت، ترتيبات دولية جديدة بالكامل وقد لا تنجح جميع محاولات الإصلاح. لكنّ التعددية هي الطريقة الواعدة الوحيدة التي يمكن أن تستعملها الولايات المتحدة لتجاوز هذه التحديات.

أخيراً، أدى الوباء المستجد على الأرجح إلى احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، لكنه شدّد في الوقت نفسه على أهمية ترك مجال للتعاون بين هاتين القوتَين البارزتَين. ظهر "سارس" و"كوفيد - 19" في الصين ولا يمكن كبح أي وباء جديد، بغض النظر عن مصدره، من دون تكاتف واشنطن وبكين. تثبت التجارب التاريخية أن هذا التعاون ممكن. تعاونت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لعقد "معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية". وفي العقد الماضي، حصل تعاون بين الولايات المتحدة وروسيا والصين في مراحل معينة حول المسائل النووية والتغير المناخي. يجب أن تكثّف واشنطن ضغوطها على الصين طبعاً رداً على معسكرات الاعتقال في "شينجيانغ" وسلوك بكين القمعي في هونغ كونغ واعتداءاتها ضد الدول المجاورة لها وتجاوزات أخرى. لكن في الوقت نفسه، يجب أن يصبح التعاون لمواجهة التهديدات الوجودية، مثل التغير المناخي والأوبئة، على رأس الأولويات.

تتطلب هذه الأجندة الدولية الواسعة مستوىً كافياً من التمويل وتفانياً كبيراً من الرئيس شخصياً وجهوداً ديبلوماسية مكثفة. يجب أن تعالج واشنطن مشاكل متعددة مثل الهجرة العالمية بكل زخم وجدّية، كما فعلت مع الاتفاق النووي الإيراني. مثلما يبحث الرؤساء الأميركيون عن قادة مرموقين وبارعين سياسياً لملء المناصب الحكومية، يجب أن يعيّنوا مسؤولين نافذين ولهم مكانة مؤثرة لتمثيل البلد في المنظمات الدولية. كذلك، على واشنطن أن تدرك أن التهديد بالانسحاب من المؤسسات الدولية أو وقف تمويلها ليس خياراً ممكناً، إذ تنتظر الصين وقوى أخرى الفرصة المناسبة لملء هذا الفراغ.

الــمــعــركــة الــمــرتــقــبــة

في عالمٍ غارق في الوباء، تستطيع سياسة التعاون الدولية والليبرالية أن تقدم المنافع لجميع الجهات. هي توسّع هامش التعددية وتُضعف مظاهر التشدد لكل من يدافع عن سياسة خارجية أميركية أكثر انضباطاً، وتقدم دولة أميركية قادرة مجدداً على استعمال قوتها الديبلوماسية بالشكل المناسب لكل من يتوق إلى استرجاع الدور الأميركي القيادي، وتقدم طريقة فاعلة لاستعمال التحالفات والمعايير الدولية كأدوات للتصدي للنزعات الاستبدادية المتنامية لكل من يعتبر الأنظمة الاستبدادية، مثل الصين وروسيا، مصدراً للتهديدات العالمية المتزايدة. لكن يسهل أن يدفع الوباء العالم في الاتجاه المعاكس طبعاً، فيغرق في الشعبوية والتراجع الديموقراطي. اقتصرت ردة فعل ترامب حتى الآن على البحث عن كبش محرقة، ويعكس موقفه حقيقة التحديات التي يواجهها الليبراليون الداعمون للتعاون الدولي. من المتوقع أن يستغل حكام مستبدون آخرون، في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، هذه الأزمة لفرض أجنداتهم الاستبدادية والكارهة للأجانب.

لكنّ هذه النتيجة ليست حتمية. في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يتوقع الكثيرون أن تصبح أوروبا الغربية حرة وموحدة ومزدهرة. وفي نهاية الحرب الباردة، كانت العملية الانتقالية السلمية غير مضمونة بأي شكل. تلك اللحظات بالذات كانت تحتاج إلى القيادة الأميركية وإلى قناعة راسخة بأهمية التعاون. في الزمن المعاصر، قد تبدو هذه القناعة ساذجة أو بالية، لكنها تبقى أنسب طريقة للحفاظ على أمن الولايات المتحدة وازدهارها.