«إنّ مسألة الحرية في لبنان شرط أساسي لبقاء صيغة التعايش فيه، وبالتالي لترسيخ وحدته، وبالتالي نحن متمسكون بقوة بالتعايش... ونعتبره أمانة الله والإنسان بيدنا، ولا يمكن بقاؤه إلا مع إحترام كل للآخر وثقة كل بالآخر ورغبة كل بالتعايش مع الآخر، وهذه الأمور لا تتوفر إلا في مناخ الحرية...»
يختصر هذا المقطع من حوار صحفي أجراه الإمام السيد موسى الصدر بتاريخ 11/2/1977، مقاربة اللبنانيين الشيعة وفهمهم لمسألة إنتمائهم للكيان اللبناني، بل يمكن القول إنّه يعبّر عن الركيزتين الأساسيتين التي من المفترض أن يقوم عليهما هذا الكيان، كذلك العوامل والضوابط التي يجب أن تحكم علاقات مكوناته الطوائفية والإجتماعية بعضهم ببعض.
وبعيداً عن إيمان الإمام الصدر الثابت بلبنان بل عشقه له، فإن المفردتين البنيويتين، الحرية والتعايش، اللتين إعتمدهما في مقاربته هذه كانتا نتاج قراءة معمقة لواقع الشيعة ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة العربية والإسلامية.
فالحرية التي مَنَّ بها الله على اللبنانيين وعلى الشيعة منهم كانت وما زالت مطلباً وحُلماً بالنسبة للكثيرين من الشيعة المواطنين في العديد من الدول العربية والإسلامية، ولا نتحدث هنا عن الحرية السياسية التي تعتبر من المحرّمات الحكومية في معظم تلك البلدان، بل الأمر يتعدّى ذلك ليطال الحرية العبادية الخالية من أيّ خلفية سياسية. وعلى الرغم من العلاقات الإيجابية والعميقة التي نسجها الإمام الصدر مع حكومات بلدان عربية وإسلامية تضمّ مواطنين مسلمين شيعة، إلا أن انعكاس إيجابية هذه العلاقات كان ظرفيّاً محدوداً نتيجة تعنّت تلك الحكومات وخوفها المزمن من تنامي الحضور الشيعي السياسي على المستويات الإقليمية والوطنية. وقد سلك المسار نفسه لاحقاً الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين رافعاً عنوان «إندماج الشيعة بأوطانهم»، غير أن محاولاته الحثيثة لتكريس هذا العنوان كواقع يمكن أن ينظّم علاقة الشيعة بمواطنيهم الآخرين كما بأنظمة الحكم في أوطانهم، كانت تصطدم دائماً بقرار معظم الحكومات العربية والإسلامية عدم السماح لهم بتحقيق هذا الإندماج، مبرّرين ذلك بالمخاوف من إمكانية إستفادة «البعبع» الإيراني المفترض من تمركز الشيعة وإمساكهم ببعض المواقع الإجتماعية أو السياسية أو الحكومية في أوطانهم. وهو عذر ساقط أصلاً لأن موقف تلك الحكومات لم ينشأ إثر انتصار الثورة الإسلامية في إيران بل سبقها بعقود من السنوات، والتعقيدات التي واجهت الإمام الصدر خير دليل على ذلك، ذلك أنها سبقت هذا الإنتصار بسنوات عديدة.
لذلك اعتبر الصدر أنّ نعمة الحرية التي وفّرها النظام السياسي القائم للبنانيين عموماً وللشيعة من بينهم، منحتهم القدرة على التعبير عن حضورهم الإنساني والعقائدي والسياسي والاقتصادي والإجتماعي في لبنان وفي عالم الإنتشار، إضافة إلى أنها أهدتهم «المقاومة» الفرصة التاريخية للوقوف في مقدمة المتصدّين للكيان العنصري الإسرائيلي وتمكينهم من نيل شرف تحرير الأراضي اللبنانية وإلحاق أكثر من هزيمة بهذا الكيان. وبالتأكيد لم يكن ذلك كلّه ليتحقق في ظل نظام سياسي آخر يمنع أو يحاصر الحريات العامة والخاصة، والشواهد المحيطة بنا كثيرة.
بناءً على ذلك، فإن إشتراط الإمام الصدر توفّر الحرية كي يتحقق التعايش يرتكز على مبدأ عدم الإكراه، وهو مفهوم قرآني يحفظ حرية الإنسان بالإيمان من عدمه، فكيف بحقه في التعايش مع أخيه وشريكه في الوطن، عندها يكون التعايش فعلاً إرادياً حرّاً يستوجب قبول اللبناني باللبناني الآخر واحترام خصوصيته العقائدية والثقافية.
على أن نموذج التعايش المفترض هذا والذي يحمل في معانيه الكثير من الترفّع والقدرة على إحتواء الآخر، كان متوقعاً منه أن يجسد فكرة «لبنان الوطن الرسالة»، ليس من زاوية تعدد الطوائف فيه وهو أمر موجود في أوطان أخرى، بل من باب أن صيغة التعايش فيه المشروطة بالحرية تسمح بالإنصهار ضمن بوتقة وطنية واحدة وتضمن عدم ذوبان اللبناني بالآخر.
لذا كان من الطبيعي أن يتقدّم مصطلح «التعايش» بمعنى التفاعل الحضاري والثقافي الإيجابي والصادق على تعبير «العيش الواحد أو المشترك» الذي تحوّل مادة سياسية-إعلامية تهدف إلى طمأنة المسيحيين لإخراجهم من حالة «الإحباط» التي أصيبوا بها بعد الطائف، في حين كانت كل القرارات والخطوات السياسية تنحو بإتجاه إضعافهم في مؤسسات الدولة السياسية والإدارية وأيضاً في الجوانب الاقتصادية للبلد.
في الوقائع الشيعية، لا شك أن الإمام المؤسس السيد موسى الصدر نجح في تكريس مفاهيمه البنيوية هذه في أكثر من محطة وطنية سياسية وإجتماعية من حياته، حتى يمكن القول إن قرار إختطافه وإخفائه من قبل معمر القذافي إنما أتى بناء على شحنٍ سياسي ومخابراتي قام به العديد من الشخصيات اللبنانية والفلسطينية ضدّه، حيث أن الإمام شكّل آنذاك العقبة الوطنية الإسلامية الوحيدة المتبقية التي وقفت بوجه إسقاط لبنان التعايش الإسلامي-المسيحي وتحويل جنوبه إلى وطن بديل للفلسطينيين.
لقد تحمّل الشيعة مع الإمام الصدر في بدايات حركته مسؤولية منع إنهيار الدولة وتخليها عن مسؤولياتها في الدفاع عن أرضها، لكن ذلك لم يَحُل دون تكبدهم خسائر كثيرة خلال الحرب الأهلية التي حاول المتقاتلون فيها جرهم كلٌ إلى متراسه. وعلى الرغم من مشاركتهم المحدودة والدفاعية في بعض محطات تلك الحرب، بقيت وجهتهم الأولى التحدي الأساس وهو منع العدو الإسرائيلي من إحتلال الأراضي اللبنانية ومن ثم قتاله بعد إحتلاله لها في العام 1978.
لم تسمح الظروف ولا الزمن للإمام الصدر ولمن سار معه النجاح في وضع المداميك الأولى لإصلاح الدولة ومؤسساتها، لكن الوثيقة التي أعلنها كورقة عمل صادرة عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في 12/5/1977، شكّلت لاحقاً المسوّدة الأولى والمطابقة حرفيّاً في الكثير من بنودها لمضمون إتفاق الطائف، ويعود الفضل في ذلك لأبرز شركاء الإمام الصدر في صياغة هذه الوثيقة وهو الرئيس الراحل حسين الحسيني.
بعد الإمام أكملت «حركة أمل» العمل وفق مفاهيمه هذه من خلال تصدّيها لكل محاولات التقسيم والتوطين وإستبدال مؤسسات الدولة بإدارات مدنية أو طائفية معزولة، إلى أن سقط بعض قيادة الحركة ومحيطها منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي في لعبة الفساد والمحاصصة والزبائنية السياسية، هذا السقوط الذي أضاع الفرصة الذهبية التي توفّرت لرئيس الحركة نبيه برّي من خلال وصوله إلى رئاسة المجلس النيابي في ظلّ نظام برلماني ديموقراطي جعل من السلطة التشريعية أُم السلطات.
الآن وأمام المآزق الإقليمية والداخلية اللبنانية التي نعيشها، ماذا يريدون الشيعة من لبنان؟
هو سؤال صار لزاماً على المتزعّمين والمسؤولين والكوادر الطليعية من الشيعة وضعه على طاولة البحث، إنطلاقاً من التحولات التي ستفرضها نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة وفلسطين عموماً، وبالتوازي مع إنسداد الأفق السياسي الداخلي والذي يجري تحميل الشيعة مسؤولية الوصول إليه.
وهو أيضاً سؤال يفرض النقاش المعمّق حول مدى التماثل بين المفاهيم البنيوية التي طرحها الإمام الصدر كأساس لحضور الشيعة في المجتمع، كذلك حول مدى تطابق أدائهم السياسي خلال الثلاثين عاماً الماضية مع مشروع بناء الدولة المرتكز على تلك المفاهيم. بمعنى أوضح لم يعد بإمكان ما يسمّى «الثنائي الشيعي» ممارسة لعبة الهروب من إستحقاق إعادة تكوين السلطة على أسس نظيفة وقواعد تحترم الدستور الذي وضع مسودته صانع نهضتهم، وذلك بهدف إعادة الإعتبار للدولة العادلة والقادرة والقوية. خصوصاً وأن السكوت عن أو حماية أو إدارة أو مشاركة أي من هذا الثنائي في منظومة الفاسدين الذين قادوا إسقاط ما كان قد تبقى من تلك الدولة أو سعوا إلى هدم بنيانها تحقيقاً لمصالحهم الشخصية أو الفئوية، كل ذلك أدّى وسيؤدّي مستقبلاً اإلى ضياع تضحيات الشعلة المضيئة المتبقية من إنجازاتهم ألا وهي المقاومة!
بالطبع لا يمكن تحميل الشيعة وحدهم بمن وما يمثلون المسؤولية عن الإنهيار المؤسساتي والاقتصادي والمالي والإجتماعي، لكن مصارحة الشيعة لأنفسهم وفي ما بينهم ومصارحتهم مع المكونات الأخرى يمكن أن توصل إلى مصالحة تُعيد الإعتبار لمفهومي الحرية والتعايش اللذين من دونهما لا بقاء للبنان.
إن التجارب الكثيرة والمتقلبة التي مرّت بها معظم المكونات اللبنانية أظهرت أن إعتقاد أي فئة بإمكانية ترتيب نتائج مستدامة بناءً على وقائع ظرفية مهما طال أمدها أو اتسع نفوذها ستؤدي حكماً إلى نهايات غير محسوبة، وهذا الأمر لا يخصّ الشيعة وحدهم بل ينسحب على المكونات اللبنانية كافة.
إن الكثير من الباحثين إعتبروا خطأً أو صواباً أن الإمام موسى الصدر صحّح مساراً تاريخياً كان قد أدى إلى قصور الشيعة عن المشاركة في إنشاء «الكيان اللبناني»، إلى أن صار هذا الإمام رائداً مقداماً وأساسياً في تمجيده وحمايته والسعي لحفظه وحفظ وجود وحضور الشيعة فيه بالتساوي مع الطوائف اللبنانية الأخرى، فهل يحق للشيعة اليوم المغامرة بسقوطه كنموذج حضاري أو القبول بتقسيمه أو فدرلته أو تخلّيه عن دوره الرسالي؟ هو السؤال الأعمق والأهم الذي يستوجب منهم القيام بخطوات سريعة وفعّالة ترقى إلى مستوى الإيثار السياسي كما كانوا دائماً سبّاقين في الإرتقاء بتضحياتهم الى مصاف الشهداء دفاعاً عن لبنان.
(*) سياسي لبناني
الحلقة المقبلة: شيعة لبنان والعرب وإيران