الدكتور جورج شبلي

أيّ رئيس نريد؟؟؟

31 آذار 2024

08 : 21

أسمع، اليوم وبالأمس القريب والبعيد، وبإلحاح شديد، أنّنا بحاجة الى رئيس للجمهوريّة، ليس فقط لاستكمال "سِيبة" المسؤولين في السّلطة، وإنّما، أيضاً، لأنّنا لم نعد نحتمل الوضع الضّاغط على أنفاسنا.



في البداية، النّاس هم على حقّ في مطالبتهم الإسراع بإنهاء المأساة التي فقّرتهم، وهجّرت أبناءهم، وجوّعتهم، ونهبت مدّخراتهم، وأجهضت آمالهم، وقضت على الأواتي من أيّامهم.


نعم، هم مُحقّون إذ يصرخون عن وجع لا يطاق، دام طويلاً، وأَنهكهم. وبات من المُلحِّ، برأيهم، البحث عن حلّ سريع وجذريّ يقضي على الأزمة ومتفرّعاتها، ليس بوعود عبثيّة عرقوبيّة، بل بالتوجّه الى انتخاب رئيس للبلاد، يُؤمَل أن يكون بداية لطريق التّغيير صوب التّفاؤل.



لسنا، أبداً، قادمين من كوكب آخر، حتى تكون قضيّة النّاس لا تعنينا، فالسّموم التي أطاحت بعافيتهم، أَتت على صحّتنا، وصدى اليأس الذي تَردّد من صراخهم، لم نعدْ نسمع سواه في قلوبنا، ومُنتَج الأَلم الذي غزا نفوسهم، زرعته دموعنا شوكاً في المُقَل.


ونحن، معهم، نريد أن يكون للجمهوريّة رئيس يشغل منصبه بشكلٍ يريح أماني النّاس، بأسس الحقّ والخير والعدل.


ولكن، لسنا نرغب في "تعبئة" كرسي الرئاسة بمن اتّفق، أي بأيّ شخص، أيّاً يكن هذا الشّخص، بمعنى أن يكون " الشّخص " ليس إلّا. لا، ففراغ الكرسي خير من ملئها ب " لا أحد "، أي بهيكل رئيس مُبَرْوَز، يكون نكبة تستمر بها جهنّم الوطن.


إننا نريد رئيساً بمواصفات لبنان، وكما يريد لبنان، ولبنان وحده، أي منحازاً للبنان، فقط. ولسنا، هنا، نبتدع شروطاً، ونخترع صفات، ونضع ثوابت، من عندنا، لا، إننا ندعو الى الرّجوع للدّستور، واستقاء صورة الرئيس من مواده، ومن نصوصه التي ليس مقبولاً أن يختلف عليها اثنان، إلّا مَنْ يدّعون الإلتزام بها، زُوراً، وينقضونها على مدى رفّات أجفانهم.



إنّنا نريد رئيساً يؤمن بسيادة لبنان، ويدافع عنها، ويواجه مَنْ يمسّها، فليس مصادفة أن تكون السيادة روح الوطن الملتهب، وبدونها، لا يكون للوطن منزلة وقامة، فيصبح كياناً ذبيحاً، مناخه جنائزيّ، ولشبح الموت فوق هامته مخلب أَسوَد، بحيث تنضح مأساة العزّة من أَنفاسه المنهَكة، ويُكَفِّن كرامته بجراحه.


من هنا، فالوطن والسيادة متماهيان، فهي سرّ وجوده، وهو رحلتها الى القيمة، هي عقيدته ودِينه، وهو حلقة اتّصالها بالكون. لذلك، فالرئيس السياديّ هو الممرّ الإلزامي لانتخاب مَنْ سيتربّع على السدّة، ولا تَراجُع أو إِشاحة عن هذه المسلّمة الوطنيّة التي بها، وحدها، يَحتضن الوطن أريج الكرامة، ويرفض الذلّ، وطَعم الرّماد، ففي ذات السيادة يرقد مُخلِّص لبنان.



إنّنا نريد رئيساً لا يتنازل عن نظام لبنان الديمقراطيّ، فهذا النظام هو القاعدة العريضة التي تتظلَّلها الحريّة صمّام أمان النّاس في حقوقهم، ولمّا كانت الديمقراطية هي توأم الحريّة، لذلك، يستحيل وجود الواحدة من دون الأخرى، أبداً. والديمقراطيّة تعني أنّ الشّعب، والشّعب وحده، هو مصدر السّلطات، يكوِنها بإرادته الحرّة، لتساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، معادَلةً تنسحب على الجميعِ بلا فوارق، أو امتيازات، أو طبقيّة. ويكون مبدأ الانتخاب، وحده، مُنتِجاً للسلطة التي تستظلّ الدّستور، وتسنّ القوانين لمصلحة الشّعب.


ولمّا كانت الديمقراطيّة هي الرأي والرأي الآخر، كان من واجبها أن تصون حال التنوّع، وحريّة الفكر والرأي والتّعبير، هذه التي تحمل هموم الوطن، وتُنقّي الحقيقة من الزّيف، تحقيقاً للعدل والاستقرار، ودفعاً صوب الأرقى.



إننا نريد رئيساً ينادي بحياد لبنان، أي بعدم التحيّز للتكتّلات، ما يجعل البلاد تنأى عن النّزاعات والصّراعات التي تضع البلد في مواجهة محنة باهظة الثّمن، على مستوى الأمن، والسّلم، والنموّ، والتّوازن. فالولوج في سياسة المَحاور، هو أسوأ ما يُزَجّ به لبنان، أمّا الحياد فيحصّن الوطن داخليّاً ودوليّا، ما ينعكس استقراراً يحفظ العيش الكريم، ويمنع التدخلّات، ويجعل المواطن واثقاً ببلده مجالاً رحباً آمناً لتحقيق ذاته، ومستقبل الأجيال.


إنّنا نريد رئيساً غير مُستباحٍ، وغير مهدور دم قراره، جريئاً حين يكون الوطن على كفّ الخطر، أيّاً يكن مصدره من الدّاخل أو من الخارج. بمعنى ألّا يسمح لتنامي مَنْ يسعون الى الاستيلاء على الدولة، ووضع اليد على الوطن، مُستَقوين بسلاح خارج على الشرعيّة، بافتعال توتيرات متنقّلة، مُلوَّنة بالدمّ، وملوِّحين بفتنة تهشّم صورة الوطن، وبحرب تقوّض أركان النّظام. على الرئيسِ أن يواجه، ولا ينكفئ، أن يتجاوز الخوف، من أيّ جهة تسبّبه، ويجد نفسه في هذا التّجاوز، وأن يسخى في الدّفاع عن هويّة لبنان في وجه المؤامرات المؤذية التي تُحضِّر له الموت الأَسوَد.


والمواجهةُ، في شخص الرئيس، ضرورة حتميّة، وشجاعة نضاليّة، وعنفوان ثوريّ يسحق حيثيّات القهر، والهيمنة، ويمتِّن سيادة الدولة وسلطة القانون، ويحافظ على كرامة البلاد.



إننا نريد رئيساً دقيق الفهم، مستوفياً عقود المعرفة التي تُنعِم على سلوكه المسؤول بالصحّة، واعياً المرحلة الملتهبة والمُغَبَّشَة والخطيرة، وثِقل تداعياتها على كاهل الناس وسلامتهم، وعلى أمن الوطن، يتحرّك على جبهتين، داخليّة بالإصلاحات والمساءلة، وهما عاملا الثّقة به، وخارجيّة بالانفتاح على العالَمَين القريب العربيّ، والبعيد العالميّ، فالانفتاح هو إكسير حياة لبنان، وقاعدة تفاعله مع الإبداع والتقدّم والإفادة. وقد أدّى تغاضي المسؤولين عن الفساد، بفسادهم، الى إرهاق الوطن وأهله بالفقر، والعوز، والهجرة، كما أدّى انعزاله عن محيطه وعن العالم الى الإطاحة بكلّ قدراته، وإمكانيّة تعافيه.


إنّ الرئيس العتيد الذي لا يُجيد المداهنة، والغشّ، والتلطّي، وموبقات السّمسرة والصّفقات، ورفع يافطات شعبويّة باهتة، وتَبَنّي بِدَع المُستَقوين لارتهان الدولة والوطن، هو الرئيس الذي نريد، والذي، معه، نستطيع أن نعمل لانتقال البلاد، في زمن القيامة، الى حالة القيامة المرجُوّة.              

MISS 3