بالتزامن مع محطات التصعيد الخطير على الجبهتين اللبنانية والسورية، بين إيران وإسرائيل، دخلت المواجهة العسكرية مرحلة جديدة من المنزلقات التي تحوم الشكوك في شأن إمكان التحكم بها بحيث لا تطلق حرباً واسعة. حتى ما قبل قصف إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل سبعة من قادة حرس الثورة الإيرانية أول من أمس، كانت القاعدة القائلة بأنّ مظاهر التصعيد التي شهدها الميدان السوري، وجنوب لبنان، ما زالت سارية المفعول، وهي أنّ الأمور ستبقى مضبوطة وتحت سقف عدم التسبب بحرب مفتوحة بين الدولة العبرية وإيران وأذرعها.
لكن الضربة الإسرائيلية في دمشق خرجت عن المألوف وطاولت مبنى تعتبره القوانين الدبلوماسية أرضاً إيرانية. وإذا كانت طهران اعتمدت أسلوب الصبر الاستراتيجي في الأشهر الماضية، ومررت الرسائل لواشنطن سواء عبر الوسطاء أو عبر المفاوضات مع المسؤولين الأميركيين في عُمان، بأنها لا تريد الحرب، فإنّ إسرائيل لم تتوقف عن استفزاز طهران ومحاولة زجها في المواجهة العسكرية وجرّ الولايات المتحدة الأميركية إلى دعمها فيها. ضربة دمشق وضعت أطراف المعادلة المصرة على منع توسع الحرب على المحك. وما كان يُعدّ حرب استنزاف، إسرائيل تفهمه إنهاكاً لأذرع طهران ولا سيما في سوريا ولبنان، ويعتبره «حزب الله» استنزافاً لإسرائيل ومواردها العسكرية، كما بات الاستهداف الإسرائيلي المباشر لإيران، والاستهداف الإيراني المباشر للقوات الأميركية في سوريا والعراق، وللسفن الأميركية والإسرائيلية في البحر الأحمر، وللعمق الإسرائيلي، تارة عن طريق الميليشيات العراقية وأخرى في إيلات عبر الحوثيين، أقرب إلى الحرب المفتوحة.
تحت عنوان الحرب المحدودة والمضبوطة يشهد الإقليم الحرب المفتوحة. في انتظار الرد الانتقامي الذي وعد به المرشد السيد علي خامنئي على ضربة دمشق، تلوح المخاطر بسبب عوامل تهدد منطق المواجهات المدروسة، سواء كانت الضربات المباشرة التي تنفذها إسرائيل في سوريا ولبنان، أو في ردود «حزب الله» عليها من جبهة الجنوب. ومن هذه العوامل الإمعان في تحدي القانون الدولي من الجانبين، على مستوى العمليات الحربية، ومن جانب إسرائيل تحديداً في ما يخص القانون الإنساني الدولي أو إيصال المساعدات الإنسانية للغزيين.
وإذا كانت إسرائيل ضربت بعرض الحائط قرار مجلس الأمن الصادر في 25 آذار الماضي بوقف إطلاق النار وتبادل الرهائن خلال شهر رمضان، وواصلت حربها على غزة بأبشع الصور لا سيما في مستشفى الشفاء، فإنها على الرغم من الضجة التي أثارتها حيال اتهامها بخرق معاهدة مناهضة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، لا تزال تقترف الأفعال نفسها التي استدعت إقامة الدعوى ضدها من قبل جنوب أفريقيا. والأفدح من ذلك أنّ الولايات المتحدة الأميركية التي مررت القرار بامتناعها عن التصويت، أجازت لإسرائيل الاستمرار في معاكسته حين اعتبرت أنه غير ملزم.
من الوقائع الصارخة حول تحدي القانون الدولي:
- قتل إسرائيل عن سابق تصميم سبعة من العاملين في منظمة «وورلد سنترال كيتشن» الأميركية التي تساعد على مواجهة المجاعة في غزة بتقديم وجبات الطعام. والضحايا من الأجانب. وهو ما أدى إلى انسحاب المنظمة كلياً من غزة.
- الانفجار الذي تعرضت له دورية تابعة لـ»اليونيفيل»في بلدة رميش الحدودية وأدى إلى جرح ثلاثة من عناصرها، إضافة إلى المترجم. وهو لم يحصل نتيجة قذيفة أو صاروخ أُطلق على الدورية، بل جراء عبوة ناسفة وضعت على جانب الطريق.
- الإشكال الذي وقع بين «الأهالي» مجدداً وبين جنود دوليين من الوحدة الفرنسية في «اليونيفيل» في بلدة برعشيت. و»الأهالي» لا يتحركون في القرى الجنوبية من دون «غمزة» من «الحزب».
- أذرع إيران تواصل تخطي حدود الدول وتهدد الملاحة الدولية من دون أن تلبس أي قناع. ولا يمس ذلك بمصالح إسرائيل وأميركا بل سائر دول العالم.
لا حرج لدى فريقي المواجهة في تهشيم القانون الدولي وهيبته المشوهة منذ سنوات. فكلاهما يعتبر أنّ القوة وحدها تتكلم. لكن المغزى الأعمق لهذا التهشيم الذي نشهده على امتداد الإقليم، هو أنّ الحلول ووقف الحرب ليست قريبة، بل هي مفتوحة على حسابات توسيعها. وإذا كانت المرجعية الدولية التي سيُعتمد على أدوارها لوقف الحرب مضروبة القدرة على الحركة ومجردة من الهيبة ومن أي توافق على دورها في مرحلة السلم، كيف يمكن التعويل على دور أممي في إدارة ما بعد الحرب؟