لم يعُد جمع «الأقطاب» المسيحيين في بكركي بالأمر المتيسّر منذ سنوات. وخلال عهد الرئيس السابق ميشال عون، كانت جهات مسيحية متنوّعة ومتناقضة من حزب «القوات اللبنانية» إلى «تيار المرده»، تعتبر أنّ أي لقاء مسيحي يريد منه عون ورئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل «الاستظلال» بغطاء البطريركية المارونية و»الجَمعة المسيحية» للإستئثار بـ»الحصة المسيحية» في الدولة وكورقة في وجه الخصوم في العناوين والملفات المطروحة، تارةً رئيس الحكومة إن كان إسمه سعد الحريري أو نجيب ميقاتي، وتارةً رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأخيراً «حزب الله»، وأحياناً ضدّ الجميع.
في 16 كانون الثاني من عام 2019، استضافت بكركي «اللقاء الماروني» المُوسّع الأخير، وانبثقت من «اللقاء» لجنةُ متابعة تضمّ نواباً عن كلّ الأحزاب والشخصيات المارونية إضافةً إلى المطران سمير مظلوم. ولم تظهر في السنوات اللاحقة أي نتيجة عملية لا للقاء ولا للجنة. وبحسب شخصية مسيحية مؤثّرة شاركت في اجتماعات مسيحية عدّة، إنّ خلافات القادة الموارنة تعرقل كلّ شيء وهذا واقع تاريخي. لذلك يخشى كثيرون من أن يُجهض هذا الخلاف مفاعيل «وثيقة بكركي» التي تُبحث أخيراً، وأن تشهد ما سبقها من حوارات وتفاهمات أو أن تبقى حبراً على ورق، خصوصاً أنّ جمع النواب الموارنة سبق أن جُرّب. وإلى التوافق أو عدمه، هناك عوائق وإشكاليات عدة أمام هذه الوثيقة، أبرزها آلية التنفيذ أو طريقة التطبيق، إذا ما تحقّق التوافق المسيحي حول العناوين المطروحة.
لكن جهات مسيحية سياسية بارزة ترفض وضع «وثيقة بكركي» في إطار إمكانية التطبيق أو عدمه، معتبرةً أنّ التركيز على «ترجمة» ما قد يُتفق عليه وإلّا الانهيار والإحباط، مقاربة خاطئة يُراد منها «الاستخفاف» بوحدة الموقف المسيحي. وتشدّد على أنّ وحدة الموقف هذه أساس حتى لو أنّها لم تُترجم فوراً، تماماً كوحدة الموقف ضدّ الوجود الفلسطيني ثمّ ضدّ الاحتلال السوري وصولاً إلى تأييد ترشيح الوزير الأسبق جهاد أزعور لرئاسة الجمهورية. وإذا لم يتحقّق الاتفاق المسيحي لأنّ هناك «بلوك» في طائفة أخرى معارض لهذا الموقف وهو يملك سلاحاً ووضعية خاصة في البلد، فهذا يحيل إلى المشكلة الرئيسية.
لذلك بالنسبة إلى جهات مسيحية عدة، إنّ هذه الوثيقة كما هي مطروحة، متعلّقة بعنوان واحد: سلاح «حزب الله». وبالتالي إنّ الوثيقة يجب أن تكون واضحة لجهة أن تسمّي بالإسم من هو السؤول عن الأزمة الرئيسية، أي «حزب الله»، وأن تنصّ بوضوح على أنّ الخروج من الأزمة يبدأ بتسليم «الحزب» سلاحه. فوحدة الصف مرتكزها وحدة الموقف، تماماً كما حقّق البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير عام 2001 انطلاقاً من بيان مجلس المطارنة الشهير. وحدة الموقف هذه كانت المرتكز للجبهة اللبنانية ولقرنة شهوان ولـ14 آذار. إذ لا يُمكن تحقيق وحدة صف ثمّ البحث عن وحدة موقف. لذلك لكي تحقّق هذه الوثيقة خرقاً، يجب أن تطرح فعلياً وعملياً الإشكالية الأساسية والأزمة الرئيسية، فعلى رغم أنّ هناك أزمات مهمة، من الشغور الرئاسي إلى ملفي النازحين والانهيار المالي... غير أنّها قابلة للتوافق، فيما هناك أزمة رئيسية هي سلاح «حزب الله».
وبالتالي إنّ الوصول إلى وحدة موقف مسيحي من سلاح «حزب الله» يُشكّل تطوراً كبيراً. وعلى رغم أنّ هذا الموقف لن يؤدّي إلى «سحب السلاح» في اليوم التالي، غير أنّ وحدة الموقف لدى المسيحيين حول هذه الأزمة الرئيسية ليست أمراً تفصيلياً. فهناك فريق مسيحي أي «التيار»، وعلى رغم تراجعه، لديه حجم نيابي وازن، وهو مؤيد و»مغطٍّ» للسلاح منذ 6 شباط 2006. وأن يقول «التيار» إنّ «حزب الله» عليه أن يسلّم سلاحه لأنّ هذا السلاح لا يجوز أن يبقى خارج الدولة بعيداً من كلّ أدبيات الاستراتيجية الدفاعية وغيرها... فهذا تطوّر كبير.
أمّا إلى أين تصل هذه المقاربة المسيحية - اللبنانية - الوطنية الواحدة تجاه السلاح لاحقاً، فلكلّ حادث حديث، بحسب جهات مسيحية معارضة. فالمسألة مبدئية، إذ حين يصبح خطاب «التيار» وأدبياته مشابهاً لخطاب «القوات» و»الكتائب» وحزب «الوطنيين الأحرار» والشخصيات السيادية المستقلة وفئات سياسية وشعبية غير مسيحية أخرى، على مستوى أنّ المشكلة الأساسية تكمن في سلاح «حزب الله» ويجب تسليم هذا السلاح كتمهيد لحلّ ومقاربة الأزمات الأخرى، تكون «وثيقة بكركي» حققت خطوة مهمة إلى الأمام. فحتى لو أنّها لم تُترجم فوراً، إلّا أنّ «حزب الله» يصبح بلا حليف مسيحي، وهذه المقاربة الواحدة تفتح دينامية بمجرد أن يقرّ «التيار» بأن السلاح هو المشكلة، ما يوجّه المسار إلى أمكنة أخرى، إنّما المدماك الأساس هو الوصول إلى هذا الموقف أولاً.
لكن حتى الآن، لم يصل «التيار» إلى هذا الموقف بعد، ولا يزال رئيسه جبران باسيل يقول إنّه يختلف مع «الحزب» حول وحدة الساحات و»إسناد» غزة إنّما يتفق معه حول حماية لبنان... فيما «القوات» و»الكتائب» وبقية «السياديين» يعتبرون أنّ هذه النظرية هي المشكلة وأنّ «الحزب» لا يحمي لبنان وعليه أن يسلّم سلاحه. في المقابل، يعتبر البعض أنّ «الرعيان بوادي والقطعان بوادي»، وأنّ كلّ ما هو دون طرح نوع من «الاستقلالية المحلية» من اللامركزية الإدارية إلى الفدرالية وصولاً إلى التقسيم، لن يوقف هجرة المسيحيين أو يعيد ثقتهم في هذه الدولة التي يشعرون بأنّ دورهم فيها تراجع كثيراً، ولا يرون أنّها قادرة على حلّ أي أزمة، من سلاح «حزب الله» واحتكار قرار الحرب والسلم إلى ملف النازحين وما بينهما الأزمة المالية - الإقتصادية والسلاح الفلسطيني وحتى ملف الكهرباء.