حسان الزين

عبيدو باشا: نصف عاصي الرحباني لفيروز والباقي للعالم

6 نيسان 2024

02 : 04

عبيدو باشا

يقدّم عبيدو باشا، الممثل والمخرج ومؤلّف الأغاني والكاتب والناقد والصحافي، في كتابه الجديد «تعا ولا تجي: مائة عام على ولادة عاصي الرحباني»، نصّاً متنوّعاً وثريّاً ويمتاز بخصوصية كتابية. ففي هذا النص المشغول بشغف ومعرفة قريبة بالتجربة الرحبانية وبعدّة نقدية وثقافية مستقلّة، تجد رواية السيرة الفنية والإنسانية وقراءة التجربة والمشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي اللبناني. وإذ يدخل الكاتب مساحات جديدة ويخترق خطوطاً حمراء، يحكي ما يراه ويدركه ويشعر به ويتذكره ويوثّقه بأسلوب رفيع نابض حر يضع التفاصيل تحت المجهر، وفي الوقت نفسه يطلق التفكير عالياً. مع عبيدو باشا، الذي تستوجب قراءته الاندماج بها والإنصات لها كي ترتفع الستارة ويبدأ العرض الكبير، هذا الحوار عن الظاهرة الرحبانية من عاصي وفيروز ومنصور إلى زياد.



لماذا كتبت عن عاصي الرحباني؟

الأمر الأساسي بالنسبة إلي هو أنه يستحق. وكان لدي دائماً شعور بأنه كان يستحق حياة مديدة. خطفه الموت، نتيجة انفجار في الدماغ، ولم يستطع أن يكمل تجربته. ومعظم مَن كتب عن عاصي ومنصور مقصّرون في تناول التجربة الرحبانية. آل الرحباني موجودون بين الناس، سواء كتبنا عنهم أم لم نكتب. كلٌّ موجود على طريقته الخاصة. بالتالي، كان لا بد من استكمال سيرة هذا الرجل الاستثنائي. على الرغم من أنني كنت ألّفت كتاباً نقدياً عنه. النقد، في لبنان وفي أماكن كثيرة، جيد أو سيئ. بالنسبة إلي النقد لا يعني هذا. والكتاب يوضح هذه الأمور. عاصي توفي في عمر صغير وظروف استثنائية، واستطاع أن يخرج من انفجار الدماغ، وإن فقد جزءاً من قدرته على التذكر. حاول أن يعمل. سعى إلى مصالحة فيروز. ما يشبه إعادة ترميم الهيكل. لم ينجح. وأنا في رأسي صورة لم تغب يوماً، وهي صورته وهو يقود الأوركسترا في حفل الأولمبياد. كان نصفه لفيروز ونصفه للعالم. وهذه مخالفة واضحة، وصريحة لقوانين القيادة. هذه الصورة عنت لي كثيراً. وكنت طوال الوقت أقرأها من دون أن أعلم لماذا هذه الصورة بالتحديد. هذه الصورة كانت محفزاً أساسياً في تأليف هذا الكتاب. ولكي أكون صريحاً، لم تكن فكرة الكتاب واردة عندي. أنا اشتغلت كثيراً مع آل الرحباني. كنت مستشارهم لسنوات. تربطني بهم علاقة وطيدة. منذ أوائل التسعينات حتّى بدايات الألفية الثالثة. وفي الوقت نفسه، أنا صديق زياد الرحباني. اعتبرت أن ثمة ديناً لزياد الرحباني، لأنه وعى أثر نتائج أبيه أخيراً، حين أعد «إلى عاصي». قبل ذلك، كنا نتكلم كثيراً عن عاصي، وكان زياد يحيد أحياناً عن الكلام، أو يقول كلاماً يتضمّن نقداً. أعماله المسرحية الأولى حملت نقداً لأعمال أبيه وعمه. وحين مات والده وتوقف المسرح الرحباني، توقف زياد عن عمل المسرح، لأن مسرحه قائم على هجاء مسرح الأخوين. لقد فقد زياد مادته.




علاقة عاصي وفيروز أثّرت في زياد



قلت إن عاصي الرحباني رحل قبل الأوان، وكان لديه ما يقدمه. هل تعتقد أن مشروع الأخوين الرحباني لم يكتمل؟


أعتقد أنه كان لديه ما يقدمه ويقوله. في المرحلة الأخيرة، بدأ الأخوان الرحباني يسرقان نفسيهما ويكرران ألحانهما. في هذه اللحظة، شعرت بأنهما على مفترق استنزاف. قدما كثيراً. ولكن كان لدي إحساس بأن عاصي ما زال يمتلك كثيراً مما لم يقله ويريد ذلك، خصوصاً في المرحلة التي افترق فيها عن فيروز، وافترقت هي عنه. وعندما عمل وحده سُئلَ: أين فيروز؟ فأجاب بأنها صارت وحدها. هذه الجملة بالتحديد أقامت فيّ نوعاً من الإيحاء بأن هذا الرجل أمام تحدٍّ بأن يقول أشياء مختلفة. وكان يستحق أن يعيش أكثر ليُخرج ذلك، بمعزل عن رأيي بفيروز. لأن كل الناس كانوا يقولون إن عاصي بلا فيروز كان يخسر واحدة من أدواته الأساسية. وهذا كلام صحيح. ولكن، في الوقت نفسه، كان قادراً على أن يقدم أشياء لا علاقة لها بحضور فيروز في حياته. وهذا منعه المرض.






لماذا اكتفيت في العنوان باسم عاصي، وغاب الآخرون، لا سيما منصور وفيروز؟


لأنها مئوية عاصي. هذا هو السبب وهذا ما استفز كثيرين... لماذا عاصي وليس منصور؟ عندما تقول عاصي، تقول منصور، والعكس صحيح. تاريخيّاً الأمر كذلك. الا إذا كان ذلك الحديث عن أنهما ثنائي مجرد كلام. عندما تحدثت عن عاصي كنت أتحدّث عن منصور. وفي الكتاب، لا حديث إلا عن عاصي ومنصور. لا يمكن الحديث عن عاصي من دون الحديث عن منصور.

في المسائل الشخصية، لكل فرد حيزه، ولكن في السياق الإبداعي الحديث عن الاثنين معاً. على الرغم من أنه يبدو أن منصور كان ممسكاً، ولكن لبّ المؤسسة هو عاصي. حتى أبناء منصور يقولون إن أباهم لم يكن منهجيّاً ومنظماً. كان هناك عقل لهذه التجربة، وهو عاصي. وهناك أمثلة عديدة لذلك. عندما كان منصور يريد تمرير قصيدة له كان يقول لعاصي إنها للشاعر الفلاني. وبعد تلحينها، يصارح عاصي بأنه مَن كتبها. هذه العلاقة فيها التباسات لطيفة تقول إن ثمة قائداً، هو عاصي. وهذا لا ينتقص من منصور. لأن منصور في حياة عاصي عمل تجربته. وهذه واحدة من عناوين الخلاف بين فيروز ومنصور.

عندما بدأ العمل في لجنة في وزارة التربية على إدخال الأخوين في المناهج، نشب خلاف بين آل الرحباني. أسرة منصور تريد الحديث عن مرحلتين. فيروز رفضت، وقالت إن هناك مرحلة واحدة هي مرحلة الأخوين، فإمّا تُؤخذ هذه المرحلة أو لا شيء. وحين أصر الطرف الآخر على المرحلتين، طار الأخوان من المنهاج، نتيجة تعنت الفريقين بكل بساطة.



«تعا ولا تجي: مائة عام على ولادة عاصي الرحباني» عن «دار نلسن»



كيف تعاملت مع هاتين المرحلتين في الكتاب؟

ولا مرة، فصلت بينهما. لا يمكن رؤية منصور بمعزل عن عاصي. المسرحية الأولى التي قدمها منصور بعد وفاة عاصي، كان يريد أن يوقعها باسم الأخوين الرحباني. وهذا مذكور في الكتاب. هناك كثير من الكلام بأن ما قدمه منصور هو أشياء تركها عاصي. أنا اعتقد أن هذا الكلام غير صحيح. لأنني لا أعلم ما الذي قام به منصور. كان يطلبني، وكان يقرأ لي. وهو شخص مبدع، وناضج ويقبل آراء الآخرين. وعندما عملت مستشاراً معه كان شَرطي أنه إذا قلت رأياً منطقياً يجب العمل به، وإذا لم يؤخذ به، لي الحق في أن أكتبه في الصحف. وهذا الاتفاق بقي ساري المفعول إلى حين وفاة منصور. لا يمكن الفصل بين الاثنين. حتى بعدما غاب عاصي، بقي موجوداً في عقل منصور وأحاسيسه.

في الكتاب، «فلشت» التجربة الرحبانية كلّها وقلت كل ما تعرفه ورأيته وما ترغب في قوله...

وما فتشت عنه أيضاً. انا أؤمن بأنه إذا ما أردت أن تتحدث قل كل شيء. ما فائدة أن تقول نصف الكلام؟ صحيح، أنا فلشت. قلت: هذا الكتاب مناسبة، ويجب الحديث عن التجربة كلّها! قصدت دخول أماكن لم يتطرق إليها أحد. أماكن خطرة أو محرمة. وما أقوله، وهو ليس مُنزلاً، يحثّ الآخرين على استكماله وتطويره، وأخذه إلى أماكن أبعد، أو الكتابة على هوامشه، أو الكتابة بالانطلاق منه، أو ضده. في النهاية، الأمر حرية.

في «تعا ولا تجي» جهدٌ كتابيٌّ واضحٌ، أهذا كي يكون ما تؤلّفه بمستوى الظاهرة الرحبانية، أم ليكون النصُ شبيهاً بك؟

على الكاتب أن يقف في علو من السطح، إذا لم يكن على علو من يكتب عنهم تصعب الكتابة. يجب عليه أن يمتلك هذا الشعور. إذا كتب من محل دوني، الشغل يخرج هزيلاً.

لم أبذل جهداً لغوياً لأمر يتعلق بهذا الكتاب فحسب بل بمشروعي في الكتابة. أنا الآن في مرحلة كيف نكتب. ليس مهماً أن نكتب إنما كيف نكتب. وهي اللحظة التي تميز الكاتب عن الآخرين. لذا، حين نقرأ الكتاب، ربما تشعر أن هذه الكتابة لا تشبه غيرها من الكتابات.

هل وضعت حدوداً لنفسك؟

لا. عندما قررت أن أقول قلت. وإلا لا أقول. هناك من سيأتي بعدنا، وعلينا أن نفكر في تجسير العلاقة بيننا وبينهم. كيف نحرر هذه العلاقة؟ بداية من خلال التدوين. وقبل التدوين، علينا أن نكون صادقين كي ندوّن. لأن الأجيال التي ستأتي تفتقد إلى الوثيقة. للأسف، هناك كتاب أو كتبة يزوّرون الوقائع. بالتالي، الجيل المقبل لن يجد إلا ما سيتوافر بين يديه. لذا، علينا ألا نلعب في التاريخ.

أنت أرّخت لهذه الظاهرة أو أولتها أو رويتها؟

الثلاثة معاً. لا بد من التأريخ. أنا منهجي في الكتابة، ولكني لا آخد قواعد وطبقها. كتابي ليس أكاديمياً. أنا خريج أكاديمية، وليس لدي كتاب أكاديمي، أو شعبي. لأنني أؤمن بأن الجمع هو الطريقة الأفضل. جمع أدوات وأساليب عدة بما يلائم.

بالإضافة إلى معرفتك بآل الرحباني وعملك كناقد مسرحي، ما هي المراجع التي استندت إليها؟

في الشأن الموسيقي، استعنت باختصاصيين. فآل الرحباني أخرجوا اللغة العربية من مكان إلى آخر، وخلقوا موسيقى مختلفة أيضاً. الأغنية العربية قبلهم كانت ثلاثة أرباع الساعة. هم عملوا أغنية غزل البنات، تضعها في فمك وتذوب وتمشي. هؤلاء لا تقف أمام كلامهم فحسب، بل ما حمل الكلام، أي الموسيقي. لذا، أجريت حوارات مع موسيقيين في شأن تفاصيل وتقنيات. لم أتحدث عمداً مع آل الرحباني، لأنهم يمكن أن يقولوا ما يناسبهم. وإذا ما أردت ان تتبنى كلامهم تكون إلى حد ما تكتب ما يريدون هم أن يكتبوه، وليس ما يجب أن تكتبه. قرأت كتباً عن الأخوين الرحباني ولم أكن مسروراً بها. معظمها كتب عندما كانا على قيد الحياة. جزء منها كان يحاول مراضاتهما. لعلّي كنت أكثر حرية كونهما غير موجودين ولأنني أعرفهما شخصياً ولأنني أعرف أبناءهما وأعرف الاشتباك القائم بينهم.



هل كان الرحابنة على تناقض مع لبنان الواقع؟

كانوا جزءاً من السلطة، من مفهوم قيام السلطة. الرئيس فؤاد شهاب أوعز بأن تفتتح برامج التلفزيون والإذاعة بأغاني الأخوين الرحباني وفيروز. كان شهاب يعيد مأسسة الدولة، وحاول أن يُدخل آل الرحباني في منظومة المأسسة هذه. والأخوان الرحباني وشوشو (حسن علاء الدين) هم الوحيدون بين الفنانين الذين أقاموا مؤسسات. أنت لا تذهب إلى الأخوين، بل إلى مؤسستهما. أنت لا تذهب عند شوشو بل إلى مؤسسته. وهذا لم يكن بمقدور من كانوا يعملون في مسرح ثقافي (منير أبو دبس ونضال الأشقر ويعقوب شدراوي وغيرهم). كانوا مبدعين ويعملون على الفانتازيا الخاصة بهم، بينما شوشو والأخوان الرحباني مأسسوا العلاقات الفنية. أسسوا فرقاً، وكانوا يدفعون رواتب شهرية.

وكان مراد الأخوين تقديم نموذج يحتذي به الفنانون اللبنانيون. وقد أثّروا فنيّاً وثقافيّاً. هناك أمر في غاية الخطورة، هو تاريخ المدينة. الأخوان الرحباني ريّفوا العلاقات في المدينة، بما فيها الحب. لقد ساهما في ترييف أشكال العلاقات في المدينة ودخلا المدينة بالمفهوم الريفي، «وبلفا» بقواهم المبدعة الساحرة وبأقوالهم المدينيين، إلى درجة أن الحريصين على المدينة وأشكال علاقاتها قبلوهم واعتبروهم الناطقين الرسميين باسمهم. وقتها، كان هناك موجة، والناس تركب الموجة. كان الناس، ومنهم النقاد، يرغبون في التمسك بهذه الموجة. وحين كان يخفت الحديث عن هذه التجربة، كان الأخوان الرحباني يكتبان مقالات بأسماء مستعارة، ويردان على المقالات التي كتباها.

عمل الأخوان الرحباني دولتهما. ساهما في اكتمال المدينة وفي انفجارها. ولكن، عندما انفجرت المدينة لم يستوعبا ذلك. لم يستوعبا لحظة الحرب. ففي مسرحهما المشكلة مهما كانت يحلها المختار أو مختار المخاتير، واذا اندلعت معركة تأتي بنت الحاكم المقتول وتستشهد على أبواب المدينة... لماذا لم تقاتل مثلاً؟ لماذا لم تخض حرب عصابات؟ وهكذا، عندما بدأت الحرب كانت الإذاعات اليمينية واليسارية تبث أغانيهما. لم يكن عندهما رسالة لأحد. كان لديهما رسالتهما. ولهذه الرسالة علاقة بالفكر الشهابي.

وزياد قبل أن ينقلب عليهما قال لهما أنتما خلقتما بلداً لا ننتمي إليه ولا ينتمي إلينا. هذا بلدكم. وهذا البلد لا علاقة له حتى بالتاريخ. له علاقة بالخيال، بالمخيال. هما تخيلا بلداً وأخرجاه كما يريدان.

لماذا فعلا ذلك؟

كانت فكرتهما أن يجمعا اللبنانيين. ولم يكونا مناضلين. كانت علاقتهما بأنظمة، ولم تكن لهما علاقة بالأحزاب أو بالأيديولوجيا. كانت علاقتهما بمؤسسات مهيمنة، بأشخاص ماسكين. اشتغلا لإكمال الهيمنة بما قدماه في الأغنية والمسرح.



أسهم ذلك في أسطرتهما، اعطاهما قوة... إلى أي مدى أذى ذلك الآخرين، مثل صباح؟

صباح اشتغلت مع الأخوين الرحباني في مسرحيتين، لا لأنهما يحبانها بل لأن فيروز كانت حاملاً، بكل بساطة. في مسرحية «دواليب الهوا»، حاصراها في خانة المواويل، على الرغم من أنها ظاهرة. صباح ظُلمت لأنه لم يكن معها أشخاص متل عاصي ومنصور.

ظاهرة الأخوين الرحباني، ومعهما فيروز، حجّمت الآخرين أم هما فعلا ذلك؟

هما، بكل الأحوال، لم يعترفا بأحد آخر. آنذاك كانت مهرجانات بعلبك هي الأساس، وكانت ليالي لبنانية وليس ما نشهده اليوم. وقال رئيس الجمهورية كميل شمعون، الذي كانت زوجته زلفا وراء الفكرة: «اعملوا شغل متل العالم، وبناءً عليه بنيشنكم أو بنيشنكم!». وفهم الأخوان الرحباني ذلك بأنه «أمنحكما أوسمة أو أطلق عليكم النار». وروى لي توفيق الباشا، وآخرون، أن الأخوين الرحباني اشتغلا لإخراج الآخرين من معادلة المهرجانات. وتابعا وحدهما عندما غادر الآخرون.

على الرغم من أنك لا تفصل إبداعياً بين عاصي ومنصور، إلا أنك في كثير من الأماكن تتعامل مع الرحابنة بالمفرق؟

صحيح، يجب أن نفصل بينهم. مشاكلهم الشخصية أثّرت عليهم كثيراً. أثّرت على عاصي وفيروز وزياد الذي انشغل لسنوات بمصالحة أمه وأبيه، وأثّرت على منصور. المؤسسات الناجحة هناك من يحميها، وهناك من يسهم في خرابها. وقد دخل كثيرون حتى في أمور العائلة. ناس مع فيروز وآخرون مع عاصي. بالتالي، هذا أمر يجب أن تقف أمامه، كما يجب أن تقف أمام تفاصيل أخرى لها علاقة بحياتهم الشخصية، لأن الحياة الشخصية جزء من المفهوم العام بإنتاج الفنان.



إكتشف زياد الرحباني والده عند وفاته



من هم الآخرون؟

كثر. مستفيدون وغير مستفيدين على الصعيد المالي، وهناك من فكر أن يستفيد على الصعيد المعنوي. الذين أثّروا سلباً كثيرون، وأسمّيهم في الكتاب «الأخوية»، ومنهم أنسي الحاج ورياض فاخوري ورفيق خوري، والأخطر كان سعيد عقل. عاصي كان حذراً منه. الوحيد الذي كان قادراً على مواجهة طروحات سعيد عقل هو عاصي، على الرغم من أنه اشتغل أمراً خطيراً هو «اللغة البيضا»، التي أراد البعض منها أن تسيطر وتأكل اللغات الأخرى، التي يسميها آخرون اللهجات. «اللغة البيضا» أمر له علاقة بسعيد عقل. الرحابنة لم يفكروا في الموضوع.

هل أسهمت هذه «الأخوية» سلباً وغذّت الشقاقات؟

أكيد. لم تغذِّ الشقاقات فحسب، بل قادت عاصي وفيروز إلى أماكن هي ترغب في أن يُقتادا إليها.

ولكن، وفق الشائع إن الأخوين الرحباني كانا يراجعان سعيد عقل، لا سيما في الشعر واللغة العربية!

كلا. شخص يكتب هذه الأغاني لا مرجع له. لماذا لم يكتب سعيد عقل أغاني تشبه أغاني الأخوين الرحباني؟ لماذا لم يكتبا قصائد تشبه شعره؟ الجواب: لأنهما يمتلكان أسلوبهما في الكتابة، ولم يُدخِلا لغته في لغتهما. فكرة سعيد عقل عن اللغة تسللت إليهما، ولكن لغته لم تدخل في لغتهما. لذلك اخترعا لغة ليست لها علاقة بسعيد عقل. هما اختارا من سعيد عقل، وهذا موجود عند منصور وليس عند عاصي. البعد اللغوي لسعيد عقل موجود عند منصور. تجاوب منصور معه أكتر من عاصي. في قصائد منصور كثير من سعيد عقل. بينما لا تجد في نصوص عاصي أثراً لسعيد عقل. عاصي دافع عن مشروعه. وأعتقد أن أحد مداميك مشروع عاصي هو أنه لم يكن يعلم ما يعمل عليه. الرجل موهوب جداً. نزق. حر. منصور يختلف عنه. منصور يفكر في ما يعمله. لذلك، استطاع عاصي أن يتملص من هذه «الأخوية»، بينما منصور لم يستطع. أحب حرية عاصي، وحريته موجودة في أدائه. لذلك خصصت له فصلاً كاملاً عن أدائه. هو أحد الممثلين الكبار. وزياد الممثل من عند عاصي، وليس من نفسه.





الأيـــقـــونـــة والـــحـــزن

يعتبر عبيدو باشا أن زياد الرحباني «الوريث الوحيد لتجربة الأخوين رحباني». وقد «وصل التجربة العتيقة بالأجيال الشابة». ويقول: «فيروز كان يمكن أن تكون للجيل الماضي. عندما قال لها زياد تفضلي هذا شغلك الجديد، قدم خدمة للجيل الجديد. وأنا لا أرى ذلك خطأ. بالعكس. لأن تلك مرحلة انتهت. مرحلة أقفلنا عليها. صارت كاملة. وضعناها في الواجهة، وبإمكاننا أن نمر من أمامها وننتبه لها أو لا نحس بوجودها. زياد منحنا فرصة اكتشاف فيروز الأخرى. ومنح الجيل الجديد فرصة الاتصال بالتجربة العتيقة من خلال صوت فيروز ومن خلال علاقته بما أنجزه والده».

وهل ينسحب هذا الكلام عن الموسيقى على المسرح؟ يجيب الباشا: «في المسرح، زياد استهزأ بأعمال الأخوين الرحباني، لكن عندما توفي عاصي اكتشفه، كأب ومبدع. كلنا عندما يموت آباؤنا نشتاق إليهم. إلى هذا الحد نحن قساة. وعندما اشتاق إليه بدأ يقف أمام صورته، ولاحقاً أمام شغله. وانتبه إلى أن هذا الرجل أنجز عملاً استثنائياً، فقرر أن يعيد خلقه من وجهة نظر حديثة. أبقى كل شيء كما هو، ولكن بنفس جديد، بحاسية جديدة».

ويعتقد الباشا أن زياد عندما قرّر تكريم عاصي في ذكراه بشريطي «إلى عاصي»، «فتح النقاش للمرة الأولى مَن من الأخوين فعل ماذا؟! فاختيار زياد، ومعه فيروز، مجموعة أغانٍ يعني أن هناك أعمالاً لأبيه وأخرى لعمّه. وعلى الرغم من أنني حريص على ألا أدخل في هذا السجال، وأقول إن الله وهبنا الأخوين، فلماذا نفصل بينهما؟، فإن زياد فتح نقاشاً ضروريّاً، لأن لكل من عاصي ومنصور خصائصه. وبقدر ما كانا قريبين كل من الآخر، كان لكل منهما ما يجعله مختلفاً عن الآخر».

ويضيف: «زياد مظلوم وظلم نفسه. لم يقدَّر، ليس بحاجة إلى تقدير. ولو كان في مكان آخر وزمن آخر لكان الوضع مختلفاً. أنا سعيد لأنه عندنا، وليس في مكان آخر. زياد ظلم نفسه لأنه مثل أبيه، مزاجي. ساعة رايق وساعة متوتر. وقد أثر ذلك عليه، على وضعه الشخصي والصحي. وتارة يولّع بالإنتاج وطوراً يختفي عن مسرح الإنتاج. وكلما توقف عن الإنتاج نحن نخسر. عمل 30 في المئة من مشروعه. لديه الكثير. ما كان يفتقده عمه وأبوه هو يمتلكه: الثقافة الموسيقية الواسعة. هما يعرفان موسيقى، ولكن لم يكونا مثقفين بقدر ثقافة زياد. زياد ابن الجاز، وابن البلوز، وابن التانغو، وابن العالم. أنا حزين لأنه غير موجود، ولا يقدّم شغله. وحزين لأنه أحياناً يضطر إلى بلّ يده في أعمال ليست له. يشتغل لمغنّين ومغنّيات. صحيح أن لطيفة، مثلاً، مطربة كويسة، لكن عمل زياد لها يُبرز وجهه الحِرفي فحسب وليس وجه المبدع. هو لديه مشروعه. مرّة، كنت عنده في الأستوديو، ودعاني لمشاركته في أغنية «شو عدا ما بدا». عشت متعة لا مثيل لها. وهو يعرف أنك إذا لم تستمتع بشغلك لا تُمتع الآخرين».

نسأله إذا كان يرى زياد من ضحايا لبنان، فيرد: «من أعظم رموز لبنان. واحدة من أيقوناته التي رفض هو تكريسها. كان ضد تحويله إلى أيقونة».