الدكتور جورج شبلي

الجمهوريّة الثالثة... وليس التّرقيع

6 نيسان 2024

02 : 00

أسمع وطني يقول، وبصوت دامٍ وثائر، في آن معاً: أما آنَ الأوان لوضع حدّ نهائيّ لزَجّي في جهنّم؟

لقد سادت، في وطني، صراعات، ونزاعات، طوال عقود، وتحكَّم فيه جُنوح يستخدم أَجرَح أدوات العنف، ونهج وسَّع رقعة احتكار قراره، والسيطرة على مقدّراته، ما أَرداه مُتخبِّطاً بالبكاء، والفوضى، وإحصاء شهدائه... وهكذا، أُنجِز فيه وعدُ التَّغييب، والفواجع، واشتهاء قوت الحياة.

في هذا الإطار، واجه الوطن حالة قاسية، فيها هَوَس التسلّط، وشهوة التفرّد بالقرار، والإستمرار في التّكفير، وسَواد الفساد، والقضاء على الدولة، من دون أن يُلحَظ هدف لبناء مستقبل واعِد، أو مشهد يخصنا. وبات الوطن في صقيع التفكّك، والعنصريّة، والتخلّف، والرجعيّة، على يَد قيِّمين بلديّين، وأغراب طارئين، كانوا رُسُل القهر، والموت، وقدّموا للوطن طَبَقَ الإنحطاط، والإنتحار، والنّكبات...

لقد تدحرج الوطن إلى دَرك لا يُدانيه إلّا نموذج الصّومال، واليَمَن، وبلدان الأدغال، من استفحال مَقيت للعقليّات السياسيّة المتخلِّفة، ومن تنفيذ مُغرِض لمخطّطات تهديميّة، ومن إفلاس للسلوك الإنتمائيّ والولائيّ، ومن تقاعس مقصود عن تقديم برنامج توجيهيّ وطنيّ نهضويّ، ومن غياب أو تغييب لمنظور جديّ للتصحيح، والإنتقال بالبلاد إلى حال البناء، والصحّة، وسيادة الوجود الحرّ.

بعدَ هذا اليأس الذي حوَّل الوطنَ كَفَناً متجوِّلاً، لسنا، هنا، في معرض إصدار توجيهات كلاميّة، كثيرها مُرَدَّد، وقد عافها النّاس لتفسُّخها، ولسنا أيضاً، ندقّ جرس الإنذار بالخطر، فقد ملَّت الآذان قرقعته. ولكن، علينا، بعد جلاء حقيقة ما نتخبّط به، أن نُراجِع، ونُقَدِّم: نعم، ينبغي أن نراجع، بهدوء وعمق، مسار تاريخ البلدِ، أقلّه منذ نشوء لبنان الكبير، وحتى اليوم، وخصوصاً في أحداثه المفصليّة، لنستخرج دروساً نفيد منها، بالفعل لا بالظّاهر، وتكون حاضرة، دوماً، في أذهاننا وفِكرنا، تَخِزُنا بحدّة، عندما نميل عنها إلى باطل قاتِل، أو خطأ مميت. أمّا ما يجب أن نقدّمه، فهو حَلّ ليس فيه تزوير، أو غموض، أو تَعامٍ عن التّكاشف، أو توهيم، وهو حَلّ عقلانيّ، صريح، يَعِدُ بعهد جديد، وِفاقاً للمناقبيّة الوطنيّة، ولمشيئة الناس بالحياة.

لن نستغرق في توصيف مجريات العُقود السّالفة، والتي لم تكنْ، فيها، حياة البلاد حياة مُثلى، والكلّ عاشها أو عايشها أو سُمِّعَها، ولن ندّعي، أو نزعم بأنّنا بصدد تقديم طَرح أو حلّ، من دون أن نستند إلى قواعد، ومعايير، مأخذُها إمّا من مفكِّرين بلديّين، من مِثل شارل مالك، وميشال شيحا، وسواهما، وإمّا من الدّساتير العالميّة التي أثبتت جدواها في نهضة البلدان، والشّعوب التي تَبنَّتها. أمّا عنوان الوثبة التّحريريّة من المتوارثات الجامدة، ومن القلق، إلى اليقظة والنّهضة، فهو الإنتقال إلى «الجمهوريّة الثالثة».

إنّ الدّستور الذي يتضمّن أساس القوانين، هو مبدأٌ به ماهيّة الوطن، والدولة، أو هو جوهر وجودهما، وقد أثبت الدّستور المَعمول به، منذ 1926، وحتى السّاعة، مع كلّ التعديلات التي طَرَّأوها على نَصِّه، ولا سيّما في الطّائف، عدم قدرته على مواجهة ما أُلبِس من تأويلات، ومخالفات، وتناقضات، حتى آلَ أمره إلى غموض مقصود، وإفراط في الإلتباس، فلم يَعُدْ مرجعاً للتمييز بين الحقّ والمصلحة، وبين النّافع والضارّ، ولم تَعُدْ وصاياه مِمّا يُعمَل بها. فالدّستور الذي ينبغي أن يتضمّن سُلَّم القِيَم، من حريّة، ومسؤوليّة، وتنظيم، ومراقبة، هي ذخائر الكيان، والدولة، وأساس العلاقة بين الوطن والمواطن، نزع القيّمون، عندنا، وتَبِعَهم الكثيرون من النّاس، إلى تَبَنّي أيّ سلطة إختلقوها، إلّا سلطة الدّستور الذي هو، وحده، مصدر كلّ السّلطات.

من هنا، علينا ألّا نعيد النّظر في دستورنا المُشَوَّه، عَمداً، والذي لم يَعُد السّلاح الماضي الذي يقوّم اعوجاج المُعوَجّين، وما أكثرهم، بل ينبغي أن نُسقِط دستوراً جديداً، ذا إحساس بتطلّعات النّاس، وحاجاتهم، وخير الوطن، مُنشِئاً وجداناً وطنيّاً صافياً، يقضي على الهرطقات في ما يُسَمّى الزّعامات الوطنيّة، وهي براء من الوطنيّة، ويتّخذ مواقف صارمة من الفساد، ومن عناصر التّزوير، والتطرّف، والتّحايل على الحقيقة...

أمّا الطريقة التي تتمّ بها النّقلة النوعيّة إلى الجمهوريّة الثالثة، فهي الثّورة، بكلّ ما لهذه الكلمة من معانٍ. إنّ الثّورة الفرنسيّة، مثلاً، كانت الفاصل بين أوروبا القرون الوسطى، وبين التمدّن، وكذلك، كانت الثورة الأميركيّة انتقالاً من التعصّب، والتّناحر، والإنقسام، والعبوديّة، إلى بزوغ دولة لمّا تزل تحكم العالَم حتى يومنا. ربّما يكون أنموذج «سادوم»، هو الفعّال لإسقاطه على واقعنا، بمعنى أن نبدأ بالهد الشّامل، والمنهجيّ، لننتقل إلى البناء على أساس قابل للحياة. وكما احتاج «سادوم» إلى «فاعِل» قادر، لينعتق، فلبنان، هو الآخر، يحتاج إلى فاعل قادر مسؤول، وبطل، يُعلِن بداية الهدم «البَنّاء»، للتخلّص من مخلّفات عقيمة أوصلَت البلاد إلى ما وصلت إليه، ويضع تشريعاً جديداً تقوم، على أساسه ولادة جديدة ليتمكن الشّعب من معايشة ملكوت الحياة، ولا يتمّ ذلك إلّا بولادة «الجمهوريّة الثالثة» الخلاصيّة.

MISS 3