نديم البستاني

بين "حزب الله" و"الفدرالية": المستوى المصلحي (3)

19 نيسان 2024

02 : 00

أمّا وقد أصبح «حزب الله» حالياً هو الراعي الأول لديمومة الدولة على حالها والحصن أمام انهيارها والمانع المتين أمام سقوط النظام الذي أوصله إلى ما هو عليه، فلماذا سيلوح في ذهنه اتخاذ المخاطرة بفقدان الأداة التي يتحكم بها والمراهنة على تغيير الصيغة التي تمنحه النفوذ والمشروعية؟

على صعيد تحليل السياسة من زاوية الفلسفة المصلحية، إنّ الأمانة الفكرية تفرض الإقرار بكون الدولة قد حادت عن مفهومها العلمي بحسب تعريفات الفكر الدستوري، وقد تحولت إلى أداة غليظة بيد «حزب الله» الذي بات يستخدمها في سبيل تأمين غطاء المشروعية وكما من أجل تنفيذ سياساته عبر آليات المؤسسات العامة التي تحوز على الصفتين الرسمية والقانونية. إذ إنه قد بلغ مرتبة إعجازية من تعاظم النفوذ والسطوة، ولم يتبق إلا الأدوار الهامشية للفرقاء الآخرين، كي يمارسوا لعبة تعبئة الفراغ وتزيين الصورة.

فالواقع يفيد بكون سيطرة «حزب الله» على النظام قد تم إرساؤها في ظل الصيغة الراهنة، وتحديداً صيغة الدولة المركزية التي نشأت عقب دستور الطائف، بحيث، لمَا نجح في تحقيق هذا التصاعد والإنفلاش الرهيب لولا تأمين الرعاية له في حناياها. أمّا وقد أصبح «حزب الله» حالياً هو الراعي الأول لديمومة الدولة على حالها والحصن أمام انهيارها والمانع المتين أمام سقوط النظام الذي أوصله إلى ما هو عليه، فلماذا سيلوح في ذهنه اتخاذ المخاطرة بفقدان الأداة التي يتحكم بها والمراهنة على تغيير الصيغة التي تمنحه النفوذ والمشروعية حيث يغدو القول بالعكس هو ضرب من الخيال وجنوح سافر عن المنطق؟

الإمساك بأوراق استراتيجية

إنّ «حزب الله» يجتبي منافع لا تحصى ويمسك بأوراق استراتيجية مهمة من خلال تغلغله ضمن الطوائف الأخرى، ما يعطيه القدرة على اختراع الإشكالات والتهديدات الأمنية الداخلية والخارجية، ليطل من ثم فيطرح نفسه بكونه الوحيد القادر على اجتراح الحلول ولعب دور الضابط للأوضاع. وكما أنه يوفر لنفسه الغطاء عبر استمداد التأييد من مجموعات وشخصيات تنتمي إلى مكونات أخرى ما يبعد عنه التهمة بالإنغلاق الطائفي، وما يموه صبغته الطائفية. إذ بالرغم من كونها فاقعة، سيظل والحال هذه قادراً على امتلاك أوراق أساسية للمناورة والتحايل على العقوبات والإستفادة من النظام المصرفي العالمي.

في حين أنّ الفيدرالية في ما لو طبّقت ستقلص من فائض النفوذ هذا وتجعل «حزب الله» محصوراً ضمن إطار الحكم المحلي للوحدات الإقليمية ذات الخصوصية الشيعية. وبالفعل ذاته سيتآكل رصيده الداخلي بمجرد خسارته أحد أهم المبررات التي تدفع شعبه لتحمل عبء التسلط، وهي الإنتقام من التاريخ عبر تحقيق التميز والسيطرة، وهي كلها انفعالات نفسية لا تمارس إلا من خلال النظرة للآخر.

إن «حزب الله» يحترف لعبة إلقاء عبء الفشل في إدارة الدولة على الآخرين، وعلى النظام الطائفي، بينما في النظام الفدرالي ستتظهر الخيبات وسيحصر المسؤولين عنها كل في إقليمه. وبالفعل ذاته سيدخل «حزب الله» في ضائقة اقتصادية كبيرة، بحيث سيخسر فرصة السيطرة على موارد الدولة واجتذابها لمصلحة مجتمعه وجمهوره على حساب الآخرين، وهو لطالما دأب على تحويلها إلى رصيد متزايد في أعداد محازبيه وحالة الإتكال الشعبي عليه.

حصر «حزب لله» في منطقة معزولة

حينما يصبح «حزب الله» محصوراً في منطقة معزولة، سيخسر الفرصة من السيطرة والتغلغل في المؤسسات الأمنية والقضائية، إذ إنّ الفدرالية ستؤمن الإستقلالية لهذه الأجهزة القائمة في مناطق غير خاضعة لنفوذه المباشر، ما سيؤسس لفرص مواجهته في المستقبل من قبل المناطق الأخرى، وهذا خطر استراتيجي كبير له. وسيخسر تحالفه مع اليسار السياسي العربي، كونه سيتظهر بطشه لهذا التيار السياسي نفسه عند محاولته العمل ضمن منطقة نفوذ واحدة وإياه في النظام الفدرالي، وهذا ما سينعكس على كثير من ملفات الحقوق الإجتماعية التي سيضطر «حزب الله» إلى مكافحتها بشكل شرس ضمن مناطقه التزاماً بفرائض تكليفاته الشرعية. بينما في الوضعية الراهنة يمكنه السماح لهذه التيارات التي يعتبرها شاذة بأن تمارس نشاطها خارج مناطق نفوذه وبالوقت ذاته يتسنى له من عقد التحالفات السياسية معها على خط شعارات معاداة الغرب وإسرائيل وتحرر شعوب المنطقة من الإستعمار. وسيتقلص دوره في النظام بعد امتلاك المكونات الأخرى القدرة على فرض الفيتو الموازي للفيتو الذي يحق للإقليم الشيعي، بينما في التركيبة الحالية الفيتو الوحيد يمسك به «حزب الله» ويترك للباقين أدواراً تشغيلية. وسيتقلص دوره من فرض نمطه الثقافي والحضاري والدعوي على باقي المجتمعات اللبنانية، بعدما أمُن جانبها من فرص السيطرة والتخضيع والإقصاء، عبر الإحتماء بنظام الضمانات الذي توفره حدود الأقاليم. والحال هذه سيضحى استهدافه العسكري والسياسي سهلاً، سواء من معارضة الداخل أو من الأعداء الخارجيين، وسيفقد القدرة على التغلغل الأمني والعسكري والتحصن ضمن الدروع المدنية في المناطق المغايرة.

الإنعكاسات التراجيدية

إنّ إيران أكثر ما تخشاه هي الانعكاسات التراجيدية لتدحرج تطبيق الفدرالية المبنية على أساس الهويات الجماعية الدينية أو الإثنية في المنطقة، فتصل ارتداداتها الزلزالية إلى أراضيها، فتهب الأقليات الأذارية والكردية والعربية والبالوشية واللورية والتركمانية للمطالبة بحق تقرير المصير بالمساواة مع الأكثرية الفارسية التي تشكل حوالى 50% من الشعب الإيراني.

فبتاريخ الحادي عشر من حزيران في سنة 2019 صرح رئيس الجمهورية الإيرانية السابق محمد خاتمي بكلمة له أمام أعضاء مجلس بلدية طهران «إن الحكومة الفدرالية قد تكون أكثر الصيغ الديمقراطية المرغوبة لحكم إيران، على الرغم من أن إيران لا يمكن أن تكون دولة فدرالية وفقاً لدستورها». فقامت على الأثر حملة جارفة لنقض هذا الطرح، تحمل الذرائع نفسها التي تساق ضده في لبنان، ولا سيما الإتهام بالتقسيم والعنصرية وزرع الشقاق وزعزعة الوحدة والإستقرار والإتهام بتعكير التعايش السلمي وبمناقضة الواقع المختلط للمناطق وسليقة التمازج العفوي، في مقابل رفع راية اللامركزية الإدارية كحل مقبول. وبناء عليه يستحيل على «حزب الله» تقديم أي طرح يناقض مصالحه التكوينية الأحشائية غير القابلة للتجزؤ عن النظام الحاكم في إيران، حيث أنّ مرتكزات الفدرالية التي تقوم على قيم الحرية والعدالة والمساواة والشراكة بين مختلف الجماعات التكوينية للشعب تناقض بالصميم الوكالة الشرعية للولي الفقيه كنائب عن الإمام المهدي المخول لوحده أن يحكم الأمة وفق الفرائض الشرعية وأن تكون له الكلمة العليا والفصل في كافة شؤون الدولة دون أية منافسة أو مشاركة أو مساواة مع أحد.

زمن الانهيارات الكبرى

يعيش لبنان حالياً في زمن الإنهيارات الكبرى، وهي مرحلة من دوائر الحضارة الحكمية تعصف بالأوطان التي لم تجارِ حركة التاريخ ولم تنخرط في مسار التطور الإلزامي، فبقيت عالقة في المفاهيم العتيقة وقد رزحت تحت حمل التراث دون أن تعرف من وصله بمفاهيم الحداثة والتكنولوجيا. إن الشعوب التي تعيش في هذه الحقبات تطرح بشكل عنيف أمام عتبة المتغيرات الكبرى، تلك المتغيرات التي تقول الأسطورة السياسية إنها تمر بالأوطان مرة كل مئة سنة والعدد هنا للدلالة الرمزية وليس للدقة الحسابية. فالتبدد والإختفاء والفناء ليست باستحالة، بل إنها إحدى الخيارات المطروحة بقوة.

في خضم المحن والأزمات، يبرز العرافون والسحرة والمهرجون، ويتم قلب المفاهيم ويتم استبدال كتب الحقيقة والمعاجم العلمية بكراريس التنجيم والطبخ وأفلام العاهرات وحكايا التافهين. فركيزة الإشاعة هي القول إنّ «حزب الله» قد أنشأ دويلة طائفية وانعزل بها عن سلطة الدولة وعن سائر المواطنين، وفدرلة الطوائف ما هي إلا مخطط قد حبكه بإحكام كي يوفق إلى تبرير نموذجه وإسقاطه على باقي الشعب اللبناني فيقسمه إلى دويلات مركبة على أساس العصبيات الدينية الغرائزية. ومؤدى ذلك خسارة اللبنانيين لوحدة الصف وبالتالي فقدانهم القدرة على مواجهة «حزب الله»، فيمسون في موقع الذاهل عن مبادئ دولة القانون والمؤسسات ومفهوم المواطنية.

فيضحى الشعب بالفعل ذاته مغترباً عن منظومة القيم الحداثية التي تفرق المجتمع اللبناني عن الرجعية التي يمارسها «حزب الله» ويفرضها على كافة مناحي الحياة. لكن الإشاعة بمكان والحقيقة بمكان آخر. فالتحليل الدؤوب لأحوال «حزب الله» عبر تفنيد ثلاثية العقيدة والسياسة والمصلحة، أي السيبة التي تقوم عليها منهجية التحليل في علوم السياسة، تحسم بكل صيغ القطع والتوكيد أن الفدرالية هي أكبر مقتلة لـ»حزب الله» وأقصى نقيض لمشروعه وأعتى مفكك لأوصاله، بحيث أنه من بديهيات الأمور مناصبتها العداء المقدس بالسر والعلن حتى الرمق الأخير، ولا بل حتى آخر نقطة دمّ.

(*) محامٍ وباحث في مجال حقوق الإنسان والفدرالية

MISS 3