- أين هي المصلحة العامة في إقراض مصرف لبنان لشركة أوبتيموم لشراء سندات خزينة وشهادات إيداع منه ثم بيعها له وتحقيق الأرباح والعمولات؟
- بتركيزه على لفت الآخرين إلى تقصيرهم عن إجراء اللازم في قضية الدعم، تحاشى مصرف لبنان كليّاً التطرق إلى تقصيره هو، الفادح لا بل المشبوه...
- التعميم 166 يساهم في التبديد الممنهج وغير القانوني من قبل مصرف لبنان للودائع بصور مختلفة وبشكل مباشر وغير مباشر
- تهرّب مصرف لبنان من تبني خطة الحكومة والدفاع عنها وشرح تفاصيلها للمعنيين وللجمهور، وهو نفسه مدعو لوضع خطة واقعية وعلمية أخرى
يقود مصرف لبنان من ثمانية اشهر بروباغاندا عنوانها «انا ما خصني الحق عليهم والتقصير منهم»، اخرها بيانه الذي صدر بداية الشهر الجاري وانتقد في بنوده الثلاثة تقصير وتباطؤ السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحتى انحراف الاعلام ايضاً.
في موضوع الخطة
فقد ذكر في البند الاول من البيان «إن استمرار التأخر في إنجاز القوانين الإصلاحية يُضعف المكانة المالية للدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف، وهذا الوضع في حال استمراره، يأتي بالضرر على المودعين الذين تتآكل حقوقهم مع مرور الزمن. واستمرار التأخير في معالجة الأزمة المصرفية له تبعات جسيمة على المجتمع اللبناني ككل وعلى الاقتصاد الوطني، من هنا أهمية الإسراع بوضع خطة واقعية وعلمية لإعادة هيكلة وإصلاح النظام المصرفي والمالي وإقرار القوانين الخاصة بها والبدء بالتفاوض مع الدائنين، مع التأكيد على استعداد مصرف لبنان للقيام بما تفرضه عليه القوانين لإتمام ما تقدم».
التعليق على ما سبق هو التالي:
يركز الكلام على تقصير الحكومة والمجلس النيابي ويتغاضى عن تقصير مصرف لبنان وبالتحديد الحاكم، ومن بعده القائم بمهام الحاكم، بتنفيذ ما هو مطلوب منهما بمقتضى المادة 208 من قانون النقد والتسليف وتعميم مصرف لبنان رقم 154 الصادر استنادا لقرار المجلس المركزي، المتخذ في اجتماعه المنعقد في 25 آب 2020 والذي شارك فيه الدكتور وسيم منصوري وزملاؤه. حيث قضى التعميم المذكور بمعالجة منطقية للمصارف (أي بالقطعة) فقضى بضرورة امتثالها الى القوانين والانظمة المصرفية، على الاخص المتعلقة بالملاءة والسيولة واعادة تفعيل نشاطها بما لا يقل عما كانت عليه قبل تشرين الاول 2019، من خلال خطة يعرضها كل مصرف حسب اوضاعه الخاصة على مصرف لبنان وتتضمن زيادة او اعادة تكوين رأس المال، ما يستوجب ضمناً تدقيقاً معمقاً في اصوله والتزاماته. وهذا هو مطلب الجميع تحت طائلة الاحالة على الهيئة المصرفية العليا لتعيين مدير مؤقت للمصرف المقصر او احالته عند الاقتضاء وحسب الاحوال ليطبق عليه القانون 2/67 (توقف المصارف عن الدفع)، او 110/91 (اصلاح الوضع المصرفي). وللآن لم ينفذ المطلوب بالرغم من مرور اكثر من ثلاث سنوات على صدور التعميم 154 (اذ تم تعيين ثلاثة مدراء مؤقتين فقط).
أيضاً يثير بيان مصرف لبنان بخصوص اهمية الاسراع في وضع خطة واقعية وعلمية لاعادة هيكلة واصلاح النظام المصرفي، لبساً وتساؤلاً عن الخطة التي رفعها بتاريخ 22 شباط 2024 نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي الى الاخير على انها معدة من قبل مصرف لبنان، وتتناول (حلّاً بالجملة) للازمة المصرفية مع دعوة الحاكم لحضور جلسات المجلس للرد على الاستفسارات؟ فهل ما زال مصرف لبنان متمسكاً بهذه الخطة؟ وفي حال الايجاب لماذا تهربه اذن من تبنيها والدفاع عنها وشرح تفاصيلها للمعنيين وللجمهور بدل دعوته لوضع خطة واقعية وعلمية أخرى؟
وليس دقيقاً الربط بين التأخر بإقرار قوانين التعافي وتآكل حقوق المودعين. فهذا الامر حصل، قبل الازمة وبعدها ولا يزال، بتبديد ممنهج وغير قانوني من قبل مصرف لبنان للودائع بصور مختلفة وبشكل مباشر وغير مباشر، آخره ما أتى به التعميم 166 من تمكين المودعين الذين حولوا ودائعهم بالليرة الى الدولار بعد 19 تشرين الاول 2019 من مشاركة اصحاب الودائع الدولارية المكونة قبل هذا التاريخ، في التوظيفات الالزامية المودعة لدى مصرف لبنان من أموال الأخيرين. علماً ان التوظيفات الاخيرة هي منذ البداية غير قانونية ويجب ردها فوراً الى اصحابها الحقيقيين اي المودعين والقرار الخاص بتكوينها يستند الى الفقرة (و) من المادة 76 من قانون النقد والتسليف وهذه تتحدث بوضوح عن ايداعات اختيارية لا الزامية.
جدير بالذكر ان المادة 72 من قانون النقد والتسليف تطالب مصرف لبنان بان يقترح على الحكومة، بمبادرة ذاتية، التدابير التي يرى من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وعلى النمو الاقتصادي بشكل عام. وهذا التكليف قد يتعدى في بعض الدول الامور التقنية البحتة ليطال اموراً تتصل بالسياسة كالمواقف السياسية الحاجبة للاستثمارات وتدفق العملات الاجنبية الى لبنان وعلى رأسها التفلت المسلح. وهذا النوع من التدخل من قبل رجال المصرف المركزي، المعتبرين موظفين غير منتخبين من قبل الشعب، بأمور سياسية بحتة من صلب مهام ممثلي الشعب، أمر عرفته وتعرفه دول عدة كفرنسا، المانيا، الولايات المتحدة وانكلترا. وأبرز صوره الاخيرة موقف الحاكم Mark Carney الذي ترأس المصرف المركزي الكندي ثم الانكليزي وعارض علناً، اثناء ولايته على الاخير، التوجه السياسي لانفصال انكلترا عن الاتحاد الاوروبي، وعندما سئل في احدى لجان مجلس العموم عما سيكون موقفه في حال اتخذ رسمياً قرار الانفصال، فهل يستقيل؟ أجاب: «إن الموضوع شخصي ويتخذ في حينه، مع العلم ان ادبياتي لا تسمح لي بالبقاء في منصب ضمن واقع لا يأتلف مع قناعاتي ولا استطيع تغييره»، فكانت استقالته مباشرة بعد التصويت على قرار البريكس.
في موضوع الدعم
من جهة ثانية يذكر البند الثاني من بيان مصرف لبنان ان الاخير قام بتزويد كافة الجهات المعنية بجردة مفصلة عن كافة ملفات الدعم ودعاها إلى المباشرة لفتح هذا الملف، منعاً من مرور الزمن على الجرم أو الجرائم التي يمكن أن تكون قد ارتكبت خلال فترة الدعم تطبيقاً للقانون رقم 240 تاریخ 16 تموز 2021 الرامي الى «إخضاع كل المستفيدين من دعم الحكومة للدولار الأميركي او ما يوازيه بالعملات الأجنبية للتدقيق الجنائي الخارجي».
التعليق على ما سبق هو التالي:
إنه بالطبع أمر جيد تذكير مصرف لبنان المعنيين (وزارتي العدل والمالية) بضرورة الاسراع بتطبيق القانون 240 للمباشرة باستعادة الاموال ممن استفادوا من اموال الدعم وتصرفوا بها على وجه غير شرعي حقق لهم الارباح الخيالية. لكن كان من المفيد ان يقوم هو ايضاً من جهته باطلاق الملاحقات اللازمة ابتداء ضد من اتخذ قرار الدعم او اسس له وايضاً لم يعترض عليه. وفي هذا يذكر ان القائم بمهام الحاكم وزملائه كاتبوا بتاريخ 15 شباط 2022 مجلس الوزراء من خلال الحاكم السابق ووزير المالية الحالي يعلمونه فيه بانحرافات الأول المتمثلة بالانفاق من التوظيفات الالزامية بالعملات الاجنبية لدى مصرف لبنان ومن حقوق السحب الخاصة، خلافاً «للقانون ولقرارات المجلس المركزي المانعة لذلك» حسب ما ورد في الكتاب. والغريب تقاعس القائم بمهام الحاكم بعد توليه زمام الحاكمية عن اطلاق الملاحقات القانونية المطلوبة ضد جميع المعنيين بالموضوع أياً كان موقعهم بمقتضى المادة 206 من قانون النقد والتسليف. فهو سبق ووقع اقراراً خطياً بأن الانفاق على الدعم مخالف للقانون ولكنه تخلف من جهة اخرى عن القيام بالمتوجب عليه ازاء هذه المخالفة الجسيمة.
لقد سبق ان طالب المسؤولون شفاهة الحاكم الاسبق د. ادمون نعيم بتأمين دعم مماثل للكهرباء فرفض بالرغم من توافر الموارد الكافية لذلك آنذاك، مشترطاً ان تأتي هذه الطلبات خطياً مع اشارة واضحة «مع الاصرار والتأكيد، او استصدار قانون ينص على حصانة خاصة وصريحة للحاكمية ازاء تلبية هكذا طلبات. فرفض الامر، وتم بالنهاية اعتماد خيار تقديم التمويل بشكل قرض يعرض على مجلس النواب للموافقة عليه. واشترط د. نعيم في تنفيذه للقرض عدم صرف اي قسط لاحق قبل تقديم جميع المستندات المثبتة لانفاق القسط السابق بشكل سليم ما حال في حينه دون حصول اي تشوهات او انحرافات كالتي حصلت مع عمليات الدعم التي مولها مصرف لبنان في السنوات الماضية وقبل اندلاع الازمة.
والمثير ان بيان مصرف لبنان، بتركيزه على لفت الآخرين الى تقصيرهم عن اجراء اللازم في قضية الدعم، تحاشى كلياً التطرق الى تقصيره هو الفادح لا بل المشبوه في تركه المصارف تمارس محاباة واستنسابية في الاستجابة لطلبات تحويل اموال مودعين مختارين منها للخارج في مخالفة صارخة لاحكام توقف المصرف عن الدفع الكامل والجزئي يعاقب عليها القانون وتوصيات الاخصائيين في هكذا ظروف أمثال bank run Douglas Diamond و Philip Debvig وBen Bernanke حائزي جائزة نوبل للاقتصاد قبل الاخيرة. كذلك غض مصرف لبنان الطرف بتقصير صارخ منه ومن لجنة الرقابة على المصارف عن ايفاء ملتبس وغير قانوني للمدينين لديونهم بالدولار على اساس 1500 ل.ل للدولار الواحد، في حين ان الاسعار الواقعية لسعر الصرف كانت اعلى من ذلك بكثير ما افاد بصورة اساسية النخبة المالية والسياسية المدينة بملايين الدولارات وراكم ثرواتها. والأمران السابقان أضاعا على المودعين ما يفوق الاربعين مليار دولار في منهبة لم يعرف العالم مثيلاً لها في تاريخه الحديث. ومن المتوقع ان تثار المسؤولية القانونية عن هذه المنهبة في الملاحقات القضائية التي ستبدأ بالظهور بالتتالي امام المحاكم الغربية بعد اليأس العام من القضاء اللبناني.
في موضوع أوبتيموم
أخيراً اوضح البند الثالث من بيان مصرف لبنان ان الاخير يتعاون بشكل وثيق مع الجهات القضائية بشأن العمليات التي قام بها مع احدى الشركات المالية خلال الفترة ما بين الاعوام 2015 الی 2018 وصولاً لإظهار الحقائق كاملة. وقد أرسل مباشرة و/أو بواسطة هيئة التحقيق الخاصة المعلومات والمستندات والحسابات التي من شأنها أن تنير التحقيق الجاري والناتج عن تقرير التدقيق الجنائي لشركة «ألفاريز ومرسال» وذلك فور طلبها. وقد بدأ القضاء في العمل عليها منذ مدة. ولفت الى ان المادة 420 من قانون العقوبات تمنع نشر أي وثيقة من وثائق التحقيق الجنائي أو الجناحي قبل تلاوتها في جلسة علنية والى التزام حاكمية مصرف لبنان بجلاء كل الحقائق والحفاظ على حقوق مصرف لبنان بالأطر القانونية المناسبة.
التعليق على ما سبق هو التالي:
إن الايضاح لا يلبي مقتضيات الشفافية المطلوبة من اي مصرف مركزي معاصر. إذ لا يشير حتى الى اسم الشركة (وهي مؤسسة مالية) موضوع النقاش العام في داخل البلاد وخارجه، مع ان اسمها معروف وعلى كل لسان وهو اوبتيموم. فحاكم مصرف لبنان مطالب حسب النص الصريح للمادة 117 من قانون النقد والتسليف بتقديم « تقريرسنوي عن عمليات المصرف» وهو امر اغفل عنه للاسف جميع الحكام الذين توالوا على مصرف لبنان. وكان من المفترض لو تم التقيد بالمطلوب ان يتطرق التقرير المنشود الى العلاقة المميزة التي ربطت مصرف لبنان بشركة اوبتيموم والى الاطار القانوني الذي حكم هذه العلاق، فيلبي بذلك تساؤلات الجمهور وحقه بالوقوف على الحقيقة من المرجع الاداري المختص.
لقد تبرع الباحث الدكتور محمود جباعي في حوار تلفزيوني اجرته معه ومع الدكتور غسان عياش في 9 نيسان 2024 الاعلامية جيسي طراد ضمن برنامج «بيروت اليوم» بتقديم عرض عام للموضوع. فذكر «ان الثمانية مليارات دولار التي يتم القول بها على انها ارباح متحصلة من عمليات اوبتيموم مع مصرف لبنان هي بالحقيقة رقم حجم العمليات... وان العقد بين الاخيرين أبرم بينهما اصولاً سنداً للفقرة (1) من المادة 102 من قانون النقد والتسليف... وقد تمت الموافقة عليه من قبل المجلس المركزي وايضاً من الدائرة القانونية لدى مصرف لبنان... وان كل الضجة المثارة حول الموضوع ليست سوى تكملة لتلك التي اثيرت ضد الحاكم السابق وهدفت وتهدف الى تقديم الاخير «كبش فداء»....».
كلام غير دقيق ومموه للحقيقة. فالمادة 102 صحيح انها تجيز لمصرف لبنان منح قروض بالحساب الجاري للمصارف بشكل فتح اعتمادات لمدة اثني عشر شهراً قابلة التجديد في حالات الضرورة لمرة واحدة على ان تكون مكفولة بسندات تجارية لا تتجاوز مدة استحقاقها السنة او بذهب او بعملات اجنبية او بسندات قيم. الا ان الاستناد اليها لا يكفي لوحده في اي عقد بين مصرف لبنان واوبتيموم، فلا بد ان يكون هناك ايضاً تأسيس على المادة 109 التي تساوي المؤسسات المالية بالمصارف بموضوع المادة 102 وكذلك على المادة 99 التي تنص على ان مصرف لبنان ليس مجبراً بمبدأ الزامي على منح القروض للمصارف والمؤسسات المالية انما يقوم بذلك «على قدر ما يرى ان مساعدته تخدم المصلحة العامة» وهنا السؤال الجوهري!
أين هي المصلحة العامة في اقراض مصرف لبنان لشركة اوبتيموم المال لشراء سندات خزينة وشهادات ايداع منه ثم بيع هذه السندات والشهادات له خلال دقائق او ساعات محدودة وتحقيق الارباح الطائلة للاخيرة والعمولات لتغذية حساب الاستشارات المفتوح لدى مصرف لبنان، حيث خرجت منه وبطريقة مشبوهة الاموال بتحاويل موضع تدقيق من القضاء في عدد من الدول الاوروبية؟
سؤال يستتبع تساؤلات مهمة اخرى عن سبب التغاضي عن مخالفات قانونية فاقعة لاحقة للفقرة (1) من المادة 102 مثل تكرار عمليات الاقراض (اي اقراض مصرف لبنان لشركة اوبتيموم) لاكثر من مرة واحدة ومن دون اثبات الضرورة خلافاً لما تقضي به الفقرة المذكورة؟
والإنحراف السابق كان يتكرر مع كل توظيف ائتماني لشركة اوبتيموم لاموال عملائها بالدولار بفوائد عالية لدى مصرف لبنان، لقاء منح الاخير بالمقابل قرضاً بالليرة اللبنانية تتعدى قيمته بكثير قيمة الاموال المودعة لديه بالعملات الاجنبية على ان تودع اموال القرض ايضاً كوديعة لأجَل لدى مصرف لبنان، على نحو يؤمن لعميل اوبتيموم تقاضي فائدتين سخيتين بالدولار وبالليرة اللبنانية. ويذكر ان رئيس مجلس ادارة اوبتيموم أقر بعدم فهمه القصد المتوخى من بعض العمليات لكنه مع ذلك شارك فيها «ايماناً وثقة بالحاكم السابق الذي كان موضع تقدير الجميع».
(*) استاذ محاضر في قوانين البنوك المركزية والنقد والتسليف