تستوقفنا بين الفترة والأخرى تصريحات من هنا وهناك على لسان قياديي ما يسمّى بالـ"ممانعة" لتعطي دروساً بالوطنية والاتهام بالتصهين أو بالـ"إسرائيلية" أو ما شابه. وكأنه لا يكفي لبنان، وبخاصة جنوبه، الدمار والموت اللاحقَين بأهله وعائلاته وأطفاله وأبريائه واقتصاده وعيشه الآمن المستقر جرّاء عبثية هؤلاء وانغماسهم في تنفيذ مشاريع وأجندات لا علاقة للبنان بها ولا مصلحة له فيها أصلاً.
منذ العام 1975 كان هناك فريق لبناني حرّ رفض استباحة لبنان من قِبل منظمة التحرير وسائر الفصائل الفلسطينية تحت عنوان محاربة إسرائيل، فتمّت شيطنته واتهامه بالانعزالية والصهينة. وفي العامين 1978 و1981 رفض الفريق نفسه أن يستباح لبنان ويُحكم بواسطة ضابط مخابرات يسميه النظام السوري – الذي دخل إلى لبنان ليحكم لا ليردع المتقاتلين، بعد أن تحوّل مسمّى قوّات الردع العربية إلى قوّات احتلال – فتكرّر الاتهام بالصهينة.
وإذ كان من المفترض الانتهاء من الاحتلالين الأول والثاني، وجد هذا الفريق اللبناني الحرّ نفسه أمام استباحة جديدة، بالوكالة هذه المرّة، بحيث جاء النظام الإيراني ليقامر بمصير اللبنانيين، لا سيما أبناء الجنوب منهم الذين تآخوا مع الدماء والدموع والدمار والمآسي من أجل استراتيجيات فاشلة عبثية لا علاقة ولا مصلحة وطنية لهم بها. في حين نرى الجبهات العربية جميعها صامتة بوجه إسرائيل وكأنه كُتب على هذا المواطن اللبناني الجنوبي أن يدفع الأثمان الباهظة دون أي آفاق واضحة لمآل المصير.
إلى كلّ هؤلاء المنحرفي الفكر والوطنية نقول: إن التربية الوطنية السليمة في لبنان كما في كافة الدول المحترمة، تقضي بأن ينشأ الطفل منذ نعومة أظافره على رفض أي احتلال وأي استباحة لأرض وطنه ولقراره الوطني. في حين أن ثقافتكم ذهبت إلى الرضوخ لكلّ المحتلين تحت عنوان محاربة إسرائيل وتحرير فلسطين، في وقت تخلّى عدد كبير من الفلسطينيين أنفسهم عن هذه الفكرة التي تعنيهم قبل غيرهم أساساً. فحملوا السلاح في الدامور وبيروت وشكا وتلّ الزعتر وطرابلس وسائر المناطق اللبنانية أكثر مما حملوه داخل فلسطين أو على حدودها.
أما جواباً عن سؤال أحدهم حول أسباب اصطدام هذا الفريق اللبناني الحرّ بمنظمة التحرير وبعدها بالجيش السوري، ما لم يحصل مع الاحتلال الإسرائيلي، فالأسباب واضحة. لقد استباحت منظمة التحرير لبنان وسيادته كما فعل النظام السوري الذي كاد أن يطبق نهائياً على قرار الدولة فيه، بين العامين 1978 و1981، لولا المقاومة الشرسة لهذا الفريق الحرّ وحفاظه على منطقة سيّدة حرّة. فيما الاجتياح الإسرائيلي الذي احتل لبنان من جنوبه إلى عاصمته في العام 1982 فلم يكن قد تبقى شيء من السيادة اللبنانية حينها ليصطدم بها، إنما اصطدم بالاحتلالات التي سبقته.
من هنا نؤكّد أن ثقافتنا هي ثقافة رفض الاحتلال وعدم التمييز بين احتلال عدوّ واحتلال شقيق. فاللبناني ولد ليكون حامياً لوطنه أولاً وأخيراً، لا ليُستخدم وقوداً في حروب الآخرين ومشاريعهم وأداة لحلّ مشاكلهم على حساب الأمن والسيادة والاستقرار والاقتصاد ومستقبل أبناء لبنان.
نحن مدرسة في الوطنية اللبنانية ولا نحتاج إلى دروس فيها، لا من أتباع ياسر عرفات ولا من جماعات رستم غزالة وغازي كنعان وما تبقى منهما، ولا حتى من وكلاء طهران. من أجل لبنان، لا نهاب أحداً ومستعدّون للقيام بما تقتضيه مصلحة الوطن.