حسان الزين

"مصر الثقافة والهوية" تحت مجهر مؤرّخ لبناني

27 نيسان 2024

02 : 02

مصر الثقافة والهوية

كتاب «مصر الثقافة والهوية» لخالد زيادة (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) رحلة غنية ومشوّقة في آن. وفيما يعود إلى بداية القرن التاسع عشر، يقوم المؤلّف ذو الباع الطويل في العمل التاريخي والبحثي والتحقيقي، بمهمّة المرشد الذي يستعرض الحدث الماضي وأبعاده، وفي الوقت نفسه يتقصّى تأثيراته ومآلاته. فالكتاب مثل القطار لا يسير فوق سكّة من خطّين فحسب، بل يدرك قائده مساره ونقطتي البداية والنهاية ومحطّاته ومواعيده وركّابه.

هكذا، يقدّم زيادة، مؤلّف «المسلمون والحداثة الأوروبية» و»كتاب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين» و»المدينة العربية والحداثة» و»الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية» وغيرها، بحثاً معاصراً بقدر ما هو تأريخي، ويرصد تطوّر السياسة بالتوازي مع تطوّر دور المثقّف المرتبط ببناء الدولة في مصر. وكما هناك الماضي والحاضر، المدخل والمخرَج، الحدث ومصيره، كذلك هناك مصر والعالم، والسياسة والثقافة، والسلطة والمجتمع، والواقعي والنظري... فدائماً، يسير الكتاب على خطّين وبين نقطتين. وكأنّ هناك هدفين للكتاب، وهما التأريخ والبحث عن النتائج وفيها.

وفي هذا الإطار، ثمة ثنائية حاضرة أيضاً، وهي استثمار زيادة إمكاناته كمؤرّخ وباحث من جهة وإقامته الطويلة في القاهرة (ديبلوماسي لبناني بين 2007 و2016) من جهة أخرى. فهذه الثنائية وفّرت للمؤلّف فرصة معرفية بحثية من الداخل، إضافة إلى معرفته الثقافية والسياسية والتاريخية من «الخارج». وبناءً على ذلك، أعدَّ بحثاً «موضوعيّاً» ونقديّاً. وبقدر ما يحضر المؤلّف في هذا العمل وصفحاته ولغته السلسة، بقدر ما فيه مؤرّخون وباحثون ومثقفون وسياسيون مصريون. فالمادة التي يستند إليها زيادة، وهي متعدّدة وواسعة جداً من الكتب السياسية والتاريخية والأدبية والدراسات الاجتماعية والمقالات إلى البيانات والتحرّكات والأحداث السياسية والمجتمعية والثقافية...، مصرية الإنتاج والأصل. وإذ يجمعها ويقرأها ويحلّلها، يشيّد منها عمارة عربية في مصر ومصرية من الفضاء العربي.





وهذه العمارة الموسوعيّة، التي يستعرض فيها زيادة شريطي السياسة والثقافة في مصر، تطرح كثيراً من الأسئلة وتسعى إلى الحصول على إجابات عنها. وأبرز أسئلة الكتاب هي: هل المثقف مستقلّ حقيقة عن السياسة وقادر على أداء دوره ووظيفته بمعزل عن السلطة القائمة؟ ألا يتبدّل دوره من حقبة إلى أخرى؟ هل دوره ووظيفته كتلة متجانسة متماسكة أم أنهما يتناقضان في بعض الظروف والأوقات؟ وهل اشتغاله في السياسة والاجتماع يؤثر في وظيفته الأصلية أم أنه يخفّض من شأنه وشأنها؟ وإذا تخلّى عن أداء دوره في الاجتماع والسياسة، فهل يحتفظ بصفة المثقف أم يتحوّل حِرَفيّاً أو صاحب مهنة؟ وما مقدار مساهمته في بناء الدولة وبلورة الأفكار الوطنية؟ وهل هو الذي يصوغ الهوية الوطنية أم يشارك آخرين في ذلك؟

والمهم في الكتاب، الذي يطلّ على مسارات المجتمع المصري وتغيّراته إضافة إلى مسار الدولة والتحديث والهوية الوطنية، أنه يجعل من الثقافة حقلاً كاشفاً لمصر وموقعها ودورها في محيطيها العربي والأفريقي، وفي العالم عموماً. فمن خلال تتبّعه الثقافة وتطوّر دور المثقفين، يقرأ تطوّر السياسة والتوجّهات الخارجية والداخلية للقاهرة.

ويتوصّل زيادة إلى خلاصة قاسية مفادها تراجع دور المثقفين المرتبط بتراجع دور مصر أو عزلتها وانكفائها على نفسها. فالمثقفون، الذين كانوا بداية «مَن اكتسبوا ثقافة الغرب واحتلوا وظائف لم يكن الفقيه يقوم بها»، «وتسلّموا وظائف خلال خدمتهم الدولتية»، «وامتلكوا اللغة»، وأسهموا على مدى عقود في نهضة الأمة وصوغ الهوية الوطنية، حاصرهم النظام الناصري وأقصاهم. وبعدما أبعدهم عهد السادات وزجّ بهم في السجون، ثم عمل بعضهم في مؤسسات الدولة في أيام حكم مبارك الذي سعى إلى استخدام الثقافة، اختفوا من المشهد «وأصبح النظام نفسه هو هويّة مصر».

MISS 3