هاورد فرانش

لماذا يغفل الجميع عن المجاعة في غزة؟

1 أيار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أطفال غزاويون يتجمّعون للحصول على الطعام في مدرسة حكومية في رفح (جنوب قطاع غزة 19 شباط 2023)

بعد سن المراهقة بفترة قصيرة، اكتشفتُ أولى المعلومات عن العالم الموجود خارج حدود بلدي، بدءاً من مشاركتي في المعرض العالمي «إكسبو 67» الذي استضافته كندا في مدينة «مونتريال» الناطقة باللغة الفرنسية، فسمعتُ هناك للمرة الأولى لغة مختلفة عن الإنكليزية التي اعتدتُ عليها أثناء نشأتي في الولايات المتحدة.

لكن كانت الرحلة التي قمتُ بها في السنة اللاحقة أكثر أهمية على كافة المستويات. تولّت والدتي قيادة السيارة، وتجوّلتُ مع عائلتي في أنحاء أوروبا الغربية، حيث كانت اللغة وكافة مظاهر الحياة تتغير مع كل حدود نقطعها. في هولندا، قرأتُ مذكرات آن فرانك. وعندما كنتُ أخيّم في إحدى غابات ألمانيا، أتذكّر أنني نمتُ وأنا أسمع قراءات عائلية لقصص صغيرة من جنوب أفريقيا. كانت تلك القصص تتطرق إلى تفاصيل الفصل العنصري بأسلوب مؤثر، بدءاً من نظام جواز المرور العرقي وصولاً إلى ظروف العمل الوحشية ومظاهر الانفصال عن الأقارب التي تحمّلها العمال المهاجرون السود والفقراء لفترة طويلة.

فتحت تلك التجارب عقلي وعينيّ على حقيقة العالم، لكنّ الأفكار التي طاردتني كانت مستوحاة من إعلانات المجلات الأسبوعية والصفحات الأولى للصحف التي تبيعها أكشاك التبغ المنتشرة في كل مكان من أوروبا. في صيف العام 1968، طغت مشاهد المعاناة الهائلة التي يعيشها الناس في جزء بعيد من العالم على أغلفة وسائل الإعلام الأوروبّية. كانت تلك الأخبار تتعلق بنيجيريا، ذلك البلد الذي كان غارقاً حينها في حرب أهلية وحشية. لكن لم تكن معظم الصور المنشورة تتمحور حول العنف بالشكل الذي اعتدنا عليه، بل كان 3 آلاف شخص، معظمهم من الأطفال، يموتون من الجوع يومياً في ذلك البلد.

حمل ذلك الصراع اسم «حرب بيافرا»، تيمّناً بمقاطعة تقع في جنوب شرق نيجيريا وكانت قد طالبت بالانفصال عن البلد لكنها فشلت في مساعيها. استحوذت تلك الحرب على انتباه معظم دول العالم خلال ذلك الصيف. سلّطت وسائل الإعلام الغربية الضوء على مظاهر المعاناة هناك، فقد تحوّلت ملامح الأولاد إلى وجوه جامدة مع شعرٍ بلون الصدأ، وضلوع ناتئة بشكلٍ مخيف، وبطون منتفخة على نحو غريب. فجأةً، أصبح اسم هذه الحالة الطبية معروفاً في كل مكان: كواشيوركور.

كان ذلك الوضع ينجم عن محاولة سكان «بيافرا» العيش من دون أي بروتينات. كان البعض محظوظاً لأن إمدادات المساعدات الطارئة وفّرت له كميات ضئيلة من الرز، وقد حاول الأهالي من باب اليأس أن يطبخوا كميات من الأعشاب الضارة والحميدة لتقديمها إلى أولادهم الجائعين.

لكني لم أفهم أن المجاعة لم تكن أثراً جانبياً لتلك الحرب إلا بعد مرور سنوات. كانت تلك المجاعة جزءاً من العوامل السياسية المرتبطة بالصدام القائم بين طرفَين وحشيَين. كذلك، بدت خسارة عدد هائل من سكان جنوب شرق نيجيريا بسبب المجاعة خلال ذلك الصيف انعكاساً لسياسات مختلف اللاعبين الخارجيين، لا سيما الدول الغربية، أي الجهات التي نختصرها عموماً بمصطلح «المجتمع الدولي».

بدا موقف بعض أعضاء الحكومة النيجيرية منافياً للأخلاق، لكنهم تحلّوا بما يكفي من الصدق لشرح موقفهم من موت سكان «بيافرا» بسبب الحرمان خلال ذلك الصيف المريع. قال أوبافيمي أوولوو، الذي كان حينها نائب رئيس المجلس التنفيذي الاتحادي في نيجيريا: «كل شيء مباح في الحروب، وتُعتبر المجاعة جزءاً من أسلحة الحرب. لا أرى مبرراً لتغذية أعدائنا والسماح لهم بمحاربتنا بأقوى الطرق». كان موقف أوولوو يفتقر إلى أي أساس منطقي، إذ تحذر قواعد الحرب التي تعود إلى اتفاقية جنيف في العام 1949 على الأقل من استعمال تجويع المدنيين كسلاح حرب، حتى أن هذه الطريقة مُنِعت بالكامل لاحقاً.

ثم زاد الوضع تعقيداً من الناحية الأخلاقية حين رفض الزعيم العسكري في «بيافرا»، أودوميجو أوجوكو، فتح ممر برّي لنقل إمدادات الإغاثة الدولية إلى منطقته الانفصالية. كان السبب الشائع وراء هذا الموقف يتعلق بتراجع احتمال أن تفرض جيوشه سيطرتها، وكان الاهتمام الدولي بالمجاعة هناك ليزيد الضغوط لفرض تسوية معيّنة ما كان ليتوصل إليها في ساحة المعركة.

بدا دور العالم الخارجي في الصراع النيجيري في العام 1968، مبهماً ومشيناً بالقدر نفسه. ذكر عنوان كتبته صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» عن جوهر ذلك الصراع ما يلي: «أسلحة لنيجيريا، وأغذية لبيافرا». أشار ذلك العنوان إلى إصرار بريطانيا على تسليح نيجيريا، ذلك البلد الذي يُعتبر الأكثر اكتظاظاً بالسكان في أفريقيا وكان مستعمرة بريطانية في الماضي، حيث احتفظت لندن بعدد كبير من المصالح الاقتصادية البارزة، لا سيما في مجال إنتاج البترول. في المقابل، حصلت «بيافرا» الانفصالية على دعم دول أوروبية أخرى مثل فرنسا (كانت تتوق إلى تقوية نفوذها في أفريقيا عبر المشاركة في تفكيك أكبر بلد أفريقي ناطق باللغة الإنكليزية)، والبرتغال (تابعت التمسّك بالحُكم الاستعماري فيما راحت نيجيريا تدعم الحركات المناهضة للاستعمار). عندما كانت بريطانيا تدعم الحكومة الاتحادية والجيش في نيجيريا، حاولت أن تريح ضميرها عبر تزويد «بيافرا» بكميات ضئيلة من المواد الغذائية المنقولة جواً.

إختصر رأي أنتوني لويس في صحيفة «نيويورك تايمز» في شهر تموز من تلك السنة، جزءاً من الحقيقة حين كتب: «حتى في عالمٍ تجتاحه قلة الإنسانية البشرية، يُفترض أن نعتبر ما يحصل في حركة التمرّد النيجيرية وحشياً وغير مبرر. إنه دليل آخر على وحشية المشاعر القبلية أو العرقية، التي تحمل طابعاً أفريقياً في هذه الحالة، لكنها قد تكون أوروبية في حالات كثيرة أخرى، وهي لا تعني شيئاً للأطراف الخارجية».

عادت إلى ذاكرتي تفاصيل أزمة «بيافرا» في آخر أسبوعَين، مع أن معظم الناس خارج غرب أفريقيا تناسوا ذلك الصراع. تذكّرتُ تلك الحرب بسبب الكارثة الإنسانية التي يواجهها قطاع غزة. بدأ احتمال المجاعة في ذلك القطاع الفلسطيني، الذي يشمل حوالى 2.1 مليون شخص، يثير القلق على مستوى العالم منذ فترة قصيرة. بلغنا هذه المرحلة أخيراً لأن التحذيرات من حصول مجاعة كارثية بدأت منذ أواخر السنة الماضية على الأقل، ولم تبذل وسائل الإعلام الدولية جهوداً كبرى لتفسير ما فعله الفلسطينيون في غزة لإعالة أنفسهم، بما أن إسرائيل منعت وصول شاحنات الإغاثة منذ أولى مراحل هجومها ضد القطاع.

أكثر ما يثير الصدمة هو شحّ الصور التي يشاهدها العالم عن محنة الفلسطينيين المحاصرين داخل منطقة الحرب. بالنسبة إلى أزمة بهذه الضخامة، يُفترض أن تعجّ الصحافة العالمية بصورٍ عن الحياة اليومية والمعاناة في غزة. لكن أين صور الأطفال الجائعين أو المشاهد التي تشير إلى تفشي مرض «كواشيوركور» أو أشكال أخرى من سوء التغذية؟ أُصيب العالم بصدمة عابرة حين هاجم الجيش الإسرائيلي قافلة غذائية، ما أدى إلى مقتل 7 عمال من «المطبخ المركزي العالمي»، وهو جزء بسيط من أكثر من 200 عامل إغاثة قُتِلوا في هذه الحرب حتى الآن. لكن نجحت إسرائيل بشكلٍ مبهر في الحد من وصول الصحافة المستقلة إلى غزة، على عكس ما حصل حين تحوّلت أنظار العالم إلى الصور المرعبة الصادرة من «بيافرا» منذ أكثر من 55 سنة، حتى لو تابعت القنوات الإخبارية تغطية أحداث القطاع على مدار الساعة وأصبحت الصفحات الإلكترونية المستحدثة والمليئة بالصور مراجع اعتيادية في المنشورات الأساسية.

لكنّ أكثر ما يثير الدهشة هي سرعة تجاهل الأخبار العاجلة عن انتشار المجاعة في غزة. لم يتراجع الاهتمام بهذا الخبر بسبب تحقيق إنجاز معيّن على مستوى تسليم المواد الغذائية، بل طغى الاهتمام بالرد الإيراني المبني على استعمال الطائرات المسيّرة والصواريخ ضد إسرائيل على نشرات الأخبار بعد قصف مقر ديبلوماسي إيراني في دمشق. يعكس هذا الوضع لامبالاة الصحافة الغربية بحياة سكان غزة الذين يدفعون ثمن هذا الصراع بطريقة مأسوية تشبه ما تحمّله سكان «بيافرا»، فقد تحوّل هؤلاء منذ عقود إلى دمى بيد طرفَي الصراع.

قد يكون توقّع الدوافع أمراً شائكاً في زمن الحرب، لكن من المنطقي أن نفترض أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اختارت توقيت ضربتها ضد الجنرالات الإيرانيين في دمشق لتحويل أنظار العالم عن الكارثة الحاصلة في غزة. تتعدد المؤشرات القوية التي تثبت أن إسرائيل بدأت تخسر دعم الرأي العام في الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة بسبب حملتها العنيفة في غزة، فقد بلغت حصيلة القتلى هناك أكثر من 34 ألف شخص، معظمهم من المدنيين.

في غضون ذلك، توقّع محللون من مختلف الانتماءات أن يحاول نتنياهو إطالة مدة الأزمة في غزة، لأن إنهاء الحرب قد يُجدّد المطالبات بإجراء انتخابات جديدة في إسرائيل، وإطلاق تحقيق حول عدم جهوزية إسرائيل لمواجهة هجوم حركة «حماس» في 7 تشرين الأول، ومتابعة القضايا القانونية العالقة بحق نتنياهو شخصياً.

طُرِحت شكوك أخرى من هذا النوع لتفسير توقيت الضربة الاستفزازية في دمشق. وفق هذا التفسير، لطالما حاول نتنياهو جرّ الولايات المتحدة إلى صراع مفتوح مع إيران، وهو لم يوجّه أي تحذير مسبق إلى واشنطن في شأن هجومه ضد القنصلية الإيرانية، على أمل أن يُجبِر أي رد إيراني مضاد الولايات المتحدة على مساعدة الإسرائيليين للتعامل مع جارتهم العدائية.

يمكن كتابة صفحات كثيرة عن تعقيدات المثلث العدائي الذي يربط بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة. لكن إذا بدأ الناس يموتون من الجوع في غزة، يستحق هذا الخبر تغطية إعلامية يومية واسعة في الوقت الراهن، ولا شيء يُبرّر تجاهل وسائل الإعلام العالمية لهذا الحدث المريع.

MISS 3