مايكل ماركي

هل تُنقذ الأقمار الاصطناعية نظام الحدّ من التسلّح؟

14 آب 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

خلال الحرب الباردة، تفاوضت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي طوال عقود حول كيفية السيطرة على المنافسة القائمة في مجال الأسلحة النووية. حافظت الاتفاقيات الناجمة عن تلك المفاوضات على السلام عبر الحد من أعداد وأنواع الأسلحة النووية التي استعملها كل طرف وفرض معايير وممارسات الشفافية التي زادت الثقة بالتزام الطرف الآخر بوعوده. لكن بدأ نظام الحد من التسلح ينهار اليوم وتنهار معه الحواجز المتبقية أمام المنافسة النووية المحتدمة.

يتعلق أحد أسباب هذا الانهيار، وهو سبب تذكره إدارة ترامب في مناسبات متكررة، بتطبيق الاتفاقيات الراهنة على الولايات المتحدة وروسيا حصراً مقابل استبعاد الصين التي تُطوّر ترسانتها النووية الخاصة. تظن واشنطن أن أي مفاوضات مستقبلية حول الحد من التسلح يجب أن تشمل بكين إلى جانب موسكو. لكن لم يعبّر المسؤولون الصينيون عن اهتمامهم بالمشاركة ولا تملك الولايات المتحدة ولا روسيا النفوذ الكافي لإجبارها على عقد اتفاق. هذا المأزق يُمهّد لانتشار الهلع لأن المقاربات التقليدية بدأت تخسر فعاليتها وتبدو أي مقاربات جديدة ومتطورة بعيدة المنال.

في بداية الحرب الباردة، حاول الاتحاد السوفياتي أن يكبح مظاهر الشفافية، فلاحق الطائرات الاستخبارية وأسقطها. ظهر مبدأ عدم التدخل للمرة الأولى في بداية السبعينات عبر محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية ومعاهدة الصواريخ المضادة للباليستية تزامناً مع زيادة قوة التصوير بالأقمار الاصطناعية والاستخبارات الفضائية. اندرج هذا المبدأ في جميع الاتفاقيات الكبرى حول الحد من التسلح منذ ذلك الحين، بما في ذلك معاهدة "ستارت الجديدة" للحد من الأسلحة الاستراتيجية في العام 2010. اليوم أصبح مبدأ عدم التدخل مُهدداً، لا سيما عن طريق الأقمار الاصطناعية. كانت معاهدة "ستارت الجديدة" من الاتفاقيات الوحيدة المتبقية التي تدعم ذلك المبدأ، لكن ستنتهي صلاحيتها في شباط 2021، إلا إذا تجاوزت واشنطن وموسكو خلافاتهما واتفقتا على أهمية تمديدها وطريقة تنفيذها. وحتى لو اتُّخِذ القرار بتمديد هذه المعاهدة، تبقى المحظورات الراهنة على مبدأ التدخل محدودة وضيقة جداً وهي تنطبق على الولايات المتحدة وروسيا حصراً، فيما تعمد الصين إلى توسيع قدراتها النووية والمضادة للأقمار الاصطناعية. كما أنها تنحصر بالأقمار المملوكة للدولة تزامناً مع زيادة أهمية الأقمار التجارية.

فيما تطلق شركات أميركية، مثل Planet وSpaceX، مجموعات جديدة من مئات آلاف الأقمار الاصطناعية، من المتوقع أن تُكمل الأقمار التجارية النسخ المملوكة للدولة، حتى أنها قد تتجاوزها على بعض المستويات، فتجمع كميات هائلة من البيانات التي تستطيع التأكيد مثلاً على امتناع المنافسين عن جمع مخزون من الأسلحة الفتاكة أو تنفيذ نشاطات عسكرية خطيرة. رغم تصميم تلك المجموعات الجديدة في الأساس لدعم النشاطات التجارية، تستطيع الحكومات أن تستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة للتعامل مع البيانات التي تحصل عليها لمراقبة تجميع الأسلحة والتحركات العسكرية بدقة غير مسبوقة.

قد تعتبر روسيا والصين مجموعات الأقمار الاصطناعية التجارية الكبرى مصدر تهديد نظراً إلى قدرتها على مراقبة النشاطات النووية والعسكرية الأخرى (وحتى إمكانية استعمالها للسماح للمقيمين تحت حكم أنظمة قمعية بالوصول إلى شبكة الإنترنت). يظن المخططون العسكريون الروس والصينيون أصلاً أن الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية وسيلة أساسية لإضعاف فعالية القدرات العسكرية الأميركية والحليفة. هــم يستعملون مجموعة من تلك الأسلحة، بما في ذلك أجهـــزة تشويش لاعتــراض الاتصالات بالأقمـار الاصطناعية والليـــزر لإعاقة عمـل الأقمار وأسلحة أخرى لاعتراضها وتدميرهـــــا. في أي نوع من الصراعات، قد تستخدم روسيا والصين تلك الأسلحة لتعطيل الأقمار الاصطناعية وإضعاف التفوق العسكري الأميركي. لكن حتى في زمن السلم، قد يستعمل البلدان الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية للتغطية على تجميع الأسلحة وتحركات القوات العسكرية، ما يُضعِف الشفافية ويزيد الخلافات المحتملة ويؤجج المنافسة على الأسلحة ويزعزع الاستقرار الاستراتيجي بين القوى النووية في العالم.

أهمية مبدأ عدم التدخل

يجب أن تكون محاولات توسيع مبدأ عدم التدخل وتحديثه نقطة البداية لأي حقبة جديدة من الاتفاقيات الأمنية متعددة الجوانب لأنها تحافظ على عنصر أساسي من الاستقرار النووي وتُمهّد لعقد اتفاقيات شاملة أخرى في المستقبل. كذلك، من المتوقع أن ترتكز أي معاهدة عالمية حول عدم التدخل بجميع الأقمار الاصطناعية، التجارية منها والمملوكة للدولة، على عقود من الإجماع الأميركي الروسي وأن تعكس قدرة الأقمار التجارية على توسيع الاستخبارات التقليدية، ما يؤدي إلى تعزيز الشفافية وتصحيح الضوابط الكبرى المفروضة على أحكام عدم التدخل عبر ضم الصين التي لا تشملها أي معاهدات للحد من الأسلحة.ستستفيد الولايات المتحدة وروسيا والصين حتماً من اتفاقية مماثلة. وقد يؤدي تعزيز الشفافية عبر منع التدخل بعمل الأقمار الاصطناعية في زمن السلم إلى توسيع الحواجز التي تحول دون اندلاع الحروب عبر تقليص الشكوك السائدة حول تجميع الأسلحة والتحركات العسكرية وتزويد الدول بالمعلومات لحشد دفاعاتها بأفضل الطرق، وعبر تسليح الدبلوماسيين بمعلومات ملموسة حول الأعداء الهجوميين لإطلاق تدخلات دولية فاعلة ومنع أي شكل من العدائية. كذلك، قد يساعد تدفق بيانات الأقمار الاصطناعية القادة من جميع الأطراف على التصدي للضغوط الداخلية التي تدعو إلى تجميع الأسلحة أو إطلاق تحركات عسكرية عدائية وغير مبررة نتيجة انطباعات خاطئة عن نشاطات الجهات المنافِسة أو القناعة القائلة إنهم يستطيعون فرض أمرٍ واقع على المنافسين عبر شن تحرك عسكري مفاجئ وعدائي.

قد تحاول روسيا أو الصين أن تتحدى هذه الجهود. لا يملك أي من البلدين قطاعاً للفضاء التجاري بقوة الولايات المتحدة وحلفائها. وقد يعارض البلدان عقد أي معاهدة جديدة حول عدم التدخل بالأقمار الاصطناعية لأن هذه الخطوة تُحوّل التركيز عن اقتراحهما الشائب للحد من الأسلحة الفضائية: تفرض "معاهدة منع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي" حظراً لا يمكن التحقق منه على الأسلحة الفضائية تزامناً مع تجاهل الأسلحة البرية المضادة للأقمار الاصطناعية التي يملكها البلدان أصلاً. لكن يمكن تجاوز هذا الاعتراض على الأرجح. بفضل سوق الأقمار الاصطناعية التجارية الناشئ في الصين، قد تحصل بكين على إمكانات متزايدة وخاصة بها، فتتجاوز مخاوفها من اضطرارها للاتكال على بيانات الشركات الأجنبية في عمليات المراقبة والتحقق.

لكن لا داعي كي تحصد المعاهدة موافقة موسكو أو بكين. من المنتظر أن تطلق الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها مجموعات واسعة من الأقمار الاصطناعية التجارية خلال السنوات المقبلة، وحتى الصين ستحذو حذوها، ما ينشئ حوافز اقتصادية مشتركة كي لا يصبح التدخل في الأقمار الاصطناعية سلوكاً اعتيادياً. إذا حاولت روسيا أو الصين نسف هذا الاقتراح، قد تمضي الولايات المتحدة قدماً في مساعيها مع مجموعة أصغر حجماً من الشركاء الراغبين في ترسيخ معيار عدم التدخل على المستوى العالمي وبدعمٍ من إطار عمل قانوني لمعاقبة المخالفين. في نهاية المطاف، قد يتلاشى تردد الروس والصينين في الانضمام إلى هذه المبادرة حين تحصد دعم معظم القوى الاقتصادية والتكنولوجية في العالم.

حــقــبــة جــديــدة مــن الــشــفــافــيــة

رغم غياب أي اتفاق رسمي، تستطيع الولايات المتحدة أن تتخذ خطوات معينة دفاعاً عن قضيتها. يجب أن تبدأ بالتعاون عن قرب مع الحكومات الحليفة لها والقطاع الخاص لتزويد الأقمار الاصطناعية الجديدة بأجهزة استشعار تحذيرية وقليلة الكلفة لرصد أي تدخل محتمل. نتيجةً لذلك، ستتمكن شبكة مراقبة عالمية من رصد حوادث التدخل المشبوهة وتسجيلها ونقل التنبيهات حول أي تدخل مثبت في الوقت الحقيقي إلى موقع إلكتروني مفتوح (تديره منظمة دولية مستقلة) أو إلى منظمة محترفة من مشغّلي الأقمار الاصطناعية الحكومية والتجارية، ما يضمن التعرّف على المخالفين وفضحهم. في مطلق الأحوال، قد تواجه هذه المنظمة الجديدة محاولات التدخل علناً تزامناً مع حماية خصوصية مشغّلي الأقمار الاصطناعية وإطلاق استجابات تتراوح بين التحذيرات والعقوبات، بحسب خطورة الحادث.

ما من طريقة عملية لجعل أحكام معاهدة عدم التدخل سارية المفعول في زمن الحرب. قد تزيد صعوبة مقاومة هذه الأهداف خلال أي صراع في ظل المنافع الكبرى التي تحصدها جيوش مختلف البلدان من المعلومات المشتقة من الأقمار الاصطناعية وأنظمة الاتصالات. لكن في الحد الأدنى، قد يؤدي حظر التدخل في عمل الأقمار الاصطناعية خلال زمن السلم إلى تحسين طريقة استهداف تلك الأقمار في أولى مراحل الأزمات، لأن أي هجوم أو تدخل مماثل بعد إقرار معايير عدم التدخل الواسعة قد يوجّه رسالة قوية عن نيّة المهاجمين بتصعيد الوضع ويبرر رد الطرف المتضرر بموجب القانون. هذا الوضع قد يسهم في استقرار المنافسة العسكرية الناشئة في الفضاء ويكبح أي تصعيد في الأزمات المستقبلية. سيكون العالم الذي يشهد تدخلات روتينية في عمل الأقمار الاصطناعية غير مستقر بأي شكل. من خلال حصر مراقبة أفعال المنافسين، قد يُمهّد هذا النوع من التدخل لسباق تسلّح خطير وزيادة الخلافات المحتملة وتوسيع الدوافع لضرب الأعداء أولاً. في المقابل، يسمح ترسيخ معيار شامل من الشفافية بضخ أمل جديد في أجندة الحد من التسلح التي تتخبط في الوقت الراهن، شرط أن تعكس الوقائع وتعالج مخاطر المنافسة النووية اليوم. وحدها الجهات التي تسعى إلى اكتساب النفوذ والتمسك بالسلطة عبر تجميع الأسلحة سراً وخوض مغامرات عسكرية واستعمال أسلوب القمع تخشى هذه الحقبة الجديدة من الشفافية.


MISS 3