لوسي بارسخيان

سوق الطوابع: 20 مليون دولار في عاميْن لمرخّصين مكتومين ضريبياً... و1.8 سنوياً للدولة

9 أيار 2024

02 : 00

السوق الموازي ناجم عن وكالات ينظّمها الباعة المرخّصون للغير
في إحاطته القانونية والمالية والإدارية الشاملة لمعضلة الطوابع المالية المتواصلة منذ بداية الأزمة المالية اللبنانية، كشف ديوان المحاسبة في تقرير صدر عن غرفته الرابعة برئاسة القاضية نيللي أبي يونس وعضوية المستشارين نجوى الخوري ورانية اللقيس، عن نزعة لنهب خزينة الدولة والناس، ليست محصورة بالسعي وراء صفقات تلزيم ترسو على أصحاب العروض المقدمة خلافاً للمصلحة العامة، بل تشمل حتى أفراداً ومجموعات، من موظفين أساؤوا لأمانة وظائفهم، أو مستفيدين، خرقوا الضوابط المحددة بموجب الرخص الممنوحة لهم، طمعاً بأرباح سهلة تتأمن من خلال «السوق السوداء»، وتبيّن من خلال تقرير الديوان أن صناديق الباعة المرخصين تسيطر على 97 بالمئة منها.

نجح أرباب هذا السوق بفعل ما حاكوه من شبكات مع الجهات التي تتولى توفير الطوابع وتأمين الإستحصال عليها، بابتلاع أرباح من بيع الطوابع خلافاً للرخص الممنوحة لهم، وصلت قيمتها إلى نحو 20 مليون دولار بين العامين 2022 و2023 بمقابل مداخيل للدولة جراء بيع هذه الطوابع، لم تتجاوز الـ1.8 مليون دولار سنوياً خلال الفترة نفسها، وفقاً لتقرير ديوان المحاسبة.

هذا في وقت جسّد تقرير الديوان اللعاب السائل على الإستفادة من حالة الفوضى السائدة، حتى على مستوى «عسكريين» يعاقبون على مد السوق السوداء بكميات من الطوابع، سحبت من التداول بهدف التلف ولكنها سربت من مطابع الجيش، وهو ما أدى لتوقف عملية الطبع نحو ثلاثة أشهر نظراً لعدم التوصل لتحديد حجم الضرر بصورة واضحة، ما شكّل عاملاً آخر في مفاقمة أزمة الطوابع، وتداعياتها المستمرة على المواطنين والإدارة العامة.

التقرير الذي سلّم رئيس ديوان المحاسبة القاضي محمد بدران قبل عطلة الأعياد، نسخة منه إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، وتوجه بنسخ لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف خليل، والجهات المعنية، أظهر المتابعة المتواصلة لهذا الملف من قبل سلطة الديوان الرقابية، وهو ما سمح لها بتحديد جذور الأزمة منذ ما قبل سنة 2019، ومسارها التصاعدي في السنوات اللاحقة، وكشف عن إجراءات إدارية لم تسهم بضبط التلاعب بهذا السوق بشكل جذري، حتى بعد تحرك القضاء بناء لأكثر من إخبار قدم في القضية.

التوصيات

إلا ان ما لفت في التقرير، هو ما إنتهى إليه من توصيات يمهّد بعضها لمرحلة التخلي الكلي عن الطوابع اللاصقة المعدة مسبقاً. وما يؤشر إلى ذلك هو إصرار الديوان على الحد من إستخدام الطابع الورقي في المرحلة المقبلة، وحصره بالمعاملات التي توجب هذا الإستعمال، والإستعاضة عنه بإشعار التسديد (ص 14) ووسم المعاملة. وأوصى في المقابل بإنهاء الإتفاق الرضائي مع الجيش اللبناني عند طبع ما تبقى من الطوابع الورقية خلال مهلة ثلاثة أشهر، وعدم التصديق على أي مناقصة لطباعة الطوابع الورقية.

هذا بالإضافة إلى توصية الديوان بالبدء فوراً بتطبيق النموذج (ص 14) مع تنظيم نماذج تودع في المؤسسات، إسترداد جميع آلات الوسم وصيانتها ووضعها في الخدمة بمهلة لا تتجاوز الشهر، الإستيفاء النقدي لقيمة الطوابع التي تتجاوز الـ 500 الف ليرة، والإعلان عن مناقصة لتلزيم الطابع الإلكتروني. على أن تواكب ذلك إجراءات إدارية، قضائية، ومالية بحق المتورطين في الأزمة بالمرحلة الماضية، ممن أساؤوا لقوانين الرخص الممنوحة لهم، أو باعوا الطوابع من دون رخص أو المكتومين ضريبياً. إلى جانب تطبيق توصية الديوان بوقف العمل بكل الوكالات الممنوحة لبيع الطوابع، لأسباب يظهرها على متن تقريره.

المخالفات

فما هي المخالفات التي رصدها الديوان حتى خرج بهذه التوصيات؟

أولاً على مستوى التلزيمات:

كان لافتاً على متن قرار الديوان توقفه عند المناقصة التي أجرتها وزارة المالية سنة 2020، بعد محاولات تلزيم عدة فشلت سابقاً. رفض الديوان نتائج المناقصة بسبب ما أظهرته من إرتفاع غير مبرر لسعر الطابع الذي قدمته الشركة التي فازت بالمناقصة حينها، بالإضافة لكون وزارة المالية لم تقدم تبريراً لسبب رفعها عدد الطوابع المطلوب طباعتها من 80 مليون طابع إلى 163 مليوناً، إلى جانب ما وجده من شوائب في دفتر شروط المناقصة.

فبدأ فراغ السوق من الطوابع في وقت مستقطع بين إجراء المناقصة الأولى والعقد الرضائي الذي وقعته وزارة المالية مع مديرية الشؤون الجغرافية في وزارة الدفاع، والذي يظهر التقرير أنه لم يرق إلى مستوى الطموحات في تغذية السوق بكل حاجاتها من الطوابع وخصوصاً مع العراقيل التي تسببت بها فروقات أسعار الطباعة وتراجع قيمة الليرة اللبنانية.

ثانياً على مستوى صناديق الباعة المرخصين:

تحوّل الطابع المالي وسيلة لتحقيق أرباح غير مشروعة لصناديق الباعة منذ سنة 2019، عندما بدأ يختفي من السوق من دون أن يعلم السبب. لتظهر هذه الطوابع لاحقاً بأسعار فاقت بأضعاف أثمانها الحقيقية. وإستفاد من هذا الواقع موظفون ووسطاء إحتكروا السوق بوضعهم اليد على الكميات المتوفرة، سواء من خلال صناديق طوابع مرخصين، أو من خلال إستئجار أو استثمار رخص أخرى بموجب وكالة، أو من خلال رخص طوابع بأسماء أشخاص تابعين لهم، أو عن طريق شراء حصص الطوابع الشهرية من مرخصين آخرين، من دون أي إلتزام ببيع هذه الطوابع بالسعر الرسمي، تحت ذريعة أن الجعالة المحددة بخمسة بالمئة غير عادلة. هذا في وقت تبيّن للديوان أنّ القسم الأكبر من أصحاب الرخص مكتومون ضريبياً لناحية نشاط الطوابع.

كشف بعض هذه الزعبرات دفع بمديرية الخزينة، بعد موافقة وزير المالية، لتجميد عدد كبير من المرخصين، وخصوصاً بعد ورود معلومات من النيابة العامة المالية تفيد بمصادرة كميات من الطوابع المالية مصدرها باعة مرخصين في بيروت وبنت جبيل وبعبدا، بالإضافة إلى ورود معلومات لفرع المعلومات في كل من منطقة الشمال والجنوب وبيروت وجبل لبنان والبقاع تفيد بمصادرة كمية من الطوابع مصدرها 17 مرخصاً. فأصبح عدد باعة الطوابع المرخصين بعد عملية التجميد 336 مرخصاً ناشطاً بعد أن كان 683 مرخصاً.

هذا في وقت طلب الديوان في تقريره وقف كل الوكالات حتى العائلية، والتأكيد على الإعتبار الشخصي لشروط إعطاء الرخصة وعدم إمكانية التنازل عنها، مع عدم بيع الطوابع إلى المرخصين الذين ليس لديهم رقم ضريبي، إلى جانب طلبه تحديث المعلومات الخاصة بالأشخاص الحاصلين على إجازة بيع طوابع. على أن يطبق مبدأ المفعول الرجعي في إستعادة حقوق الدولة الضريبية، وتطبق القوانين المرعية بالنسبة للمخالفين في بيع الطوابع بغير أسعارها سواء بالسجن أو بالغرامات المالية.

ثالثاً على مستوى الموظفين المعنيين بتسليم الطوابع:

يتوقف تقرير الديوان عند ما جاء في نقاشات لجنة الدفاع والداخلية والبلديات حول وجود عشرة أشخاص يسيطرون على سوق الطوابع الموازي، نتيجة لوكالات ينظمها الباعة المرخصون للغير. يمكن تصور النفوذ الذي يتمتع به هؤلاء إذا صحت أعدادهم، من خلال متابعة تفاصيل المخالفات التي رصدها الديوان في برامج تسليم الطوابع الشهرية لباعتها المرخصين، والإستنسابية التي طبقت على صعيد المؤتمنين إدارياً على تنفيذ هذه البرامج، مع عدم الإلتزام بالحصة الإجمالية لكل مرخص. فطبقت هذه البرامج وفقاً لتقرير الديوان على 228 مرخصاً ولم تطبق على 182 آخرين، وهذا ما حمل شبهات التواطؤ ما بين الموظفين المعنيين وبعض المرخصين، الأمر الذي طلب الديوان التحقيق بشأنه من قبل المراجع القضائية المعنية. علماً ان الإدارة لم تتمكن من تقديم قيد واضح لحركة الطوابع اليومية لجهة البيع والتسلّم والتسليم، ولا جردات تكشف حجم التلاعب والمتلاعبين، أو سجل بالأرقام التسلسلية لكل فئة من الطوابع يسهل تتبعها لدى الصناديق، بمقابل إفادتها شفهياً بأنها لا تمسك سجلاً يدوياً لرخص الطوابع المعطاة.

وصف الديوان الداء بالنسبة لأزمة الطوابع، وأوصى بالدواء، وإلى جانب وضعه نتائج الإستقصاءات الموسعة التي توصل إليها بأيدي السلطات السياسية والإدارية المعنية، أبلغ بها أيضاً كل من النيابة العامة لدى الديوان والنيابة العامة التمييزية، فهل يتحرك القضاء بناء على ما يكشفه التقرير من فضائح موصوفة؟