جوزيف حبيب

تايوان وكوسوفو و"معموديّة الدمّ"!

شي يُحيي الجماهير في بلغراد أمس الأوّل (أ ف ب)

أطلق الرئيس الصيني شي جينبينغ مرحلة جديدة من العلاقات الديبلوماسية مع أوروبا لما بعد جائحة «كوفيد»، فخرج شخصيّاً من «عزلته» وعرّج على «القارة العجوز» هذا الأسبوع بعد سنوات من الغياب. صحيح أنّ جولة شي شملت فرنسا وصربيا والمجر، بيد أن لزيارته صربيا «نكهة خاصة» أرادت بكين وبلغراد إظهارها علانية، فهي تزامنت مع ذكرى مرور 25 عاماً على قصف واشنطن، عن طريق الخطأ، مقرّ السفارة الصينية في العاصمة الصربية خلال حملة حلف «الناتو» ضدّ القوات الصربية عام 1999 في حرب كوسوفو، ما أودى بحياة 3 صحافيين صينيين آنذاك.

حرص شي على الإشادة بالصداقة المتينة بين الصين وصربيا، إذ «سُطّرت بدم أبناء بلدَينا». الرسالة التي بعثتها بكين للغرب واضحة: علاقاتنا بالصرب «معمّدة بالدمّ»، وتالياً هي مبنية على «صخرة» الثقة المتبادلة والتعاون المشترك الصلبة وغير القابلة للزعزعة. استكمل الرئيس الصيني كلامه بالتأكيد أنّ البلدَين يدعمان المصالح الأساسية لبعضهما بعضاً، مجدّداً حسم موقف بكين من وضعية كوسوفو، قائلاً إن «الصين تدعم صربيا في جهودها لحماية سيادتها الوطنية وسلامة أراضيها في ما يتعلّق بقضية كوسوفو».

أمّا الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش الذي استقبل شي بحفاوة، فارشاً له السجادة الحمراء، وحاشداً أنصاره في بلغراد، فأعلن أمام المحتشدين، وعلى مسامع نظيره الصيني، أن «تايوان هي الصين!». تُعتبر بكين إلى جانب موسكو، من أبرز العواصم التي لم تعترف إطلاقاً بإعلان كوسوفو استقلالها من طرف واحد عام 2008، بينما تعترف صربيا بجمهورية الصين الشعبية وتؤكد أن تايوان التي تتمتّع بحكم ذاتي منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية في العام 1949، جزء لا يتجزّأ من الأراضي الصينية.

تطمح بكين إلى وضع يدها على «نجمتها» تايوان الرائدة عالميّاً في صناعة «أشباه الموصلات»، السلعة الاستراتيجية البالغة الأهمية، وتحقيق «حلمها المؤجّل» بإعادة توحيدها مع بقية أراضيها ولو بالقوّة، بينما يصف الصرب كوسوفو بـ»قلب صربيا» النابض و»المخطوف» في آن. تحتلّ كوسوفو مكانة خاصة في الوجدان الجماعي الصربي، فلقد شهدت حروباً مفصلية أبرزها بين المملكة الصربية والسلطنة العثمانية في نهاية القرن الرابع عشر، وشكّلت رمزاً تاريخيّاً لمقاومة الصرب للغزاة المحتلّين.

وكما تنظر بكين إلى تايوان كعضو أساسي في «الجسد الصيني» المتكامل وتسعى إلى «الاستحواذ» عليها مستقبلاً، فيما تحوم سفنها وطائراتها حول الجزيرة بكثافة أخيراً، هكذا تتمسّك بلغراد بفكرة استعادة كوسوفو إلى «حضنها الدافئ»، وتراها «معقلاً تاريخياً مقدّساً» وجزءاً جوهرياً لا يُمكن التخلّي عنه، يضمّ عدداً من أعرق الأديرة التابعة للكنيسة الصربية الأرثوذكسية. و»العدوّ» المشترك بين بكين وبلغراد واحد، وهو الولايات المتحدة الأميركية التي يُحافظ ثقلها العسكري في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ودعمها القوي لتايوان، على السلام والأمن في المضيق الاستراتيجي حتّى الآن.

التدخّل العسكري الأميركي بعباءة «الناتو» في حرب كوسوفو عام 1999 وضع حدّاً للمجازر المتبادلة بين الصرب المسيحيين الأرثوذكس، حلفاء موسكو التاريخيين، والإنفصاليين الألبان المسلمين، وحسم الحرب لمصلحة الألبان بفِعل حملة القصف الجوّي العنيفة على صربيا، وعبّد لهم الطريق لإعلان استقلالهم تحت حماية «كفور»، قوّة حفظ السلام التابعة لـ»الناتو». النزاعات بين الأقلية الصربية والأكثرية الألبانية في كوسوفو تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، مع تمسّك الصرب باعتبار أنفسهم رعايا للدولة الصربية التي سُلخوا عنها، من جهة، وإصرار بريشتينا على اضطهاد الصرب واستفزازهم، والعمل على قمعهم وإضعافهم، من جهة أخرى.

مضيق تايوان ومنطقة البلقان، هما بحكم الواقع الجيوسياسي بؤرتان مضطربتان قد تنفجران عند أي اخلال بموازين القوى القائمة، فضلاً عن أنّهما ساحتَا «صراع خامد» بين واشنطن و»أعدائها» الدوليين، وعلى رأسهم بكين وموسكو. من المرتقب تولية رئيس تايوان المُنتخب لاي تشينغ تي الذي تحتقره بكين وتُصنّفه «انفصاليّاً خطراً» يقود الجزيرة نحو الحرب، في 20 أيار، في وقت يتخوّف فيه محلّلون من أنّ «ساعة الصفر» لإطلاق الصين «حرب التوحيد» اقتربت أكثر من أي وقت مضى.

بالتوازي، تبقى مخاطر تفجّر الوضع في البلقان عالية في ظلّ اتقاد الجمر تحت الرماد في كوسوفو، إضافةً إلى استمرار تحدّي جمهورية «صربسكا» الستاتيكو الحالي في البوسنة والهرسك. فهل نشهد في المدى المنظور انبعاث دخان بركانَي تايوان والبلقان، لتحرق حممهما آخر صفحات النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة، وتُطلق ربّما شرارة حرب عالمية ثالثة؟ أم تغلب «أنغام» التسويات والحلول السلمية «ضجيج» طبول الحرب؟