لينا خطيب

التركيز الأميركي على الإتفاق النووي أعطى إيران حرية التصرف في الشرق الأوسط

11 أيار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس السابق باراك اوباما يقف مع نائبه آنذاك جو بايدن خلال مؤتمر صحافي حول الاتفاق النووي الايراني في البيت الابيض (واشنطن 14 تموز 2015)

فوّتت الولايات المتحدة فرصة كبرى في الملف الإيراني. لو توصّلت واشنطن إلى استراتيجية شاملة لمعالجة دور طهران التخريبي في الشرق الأوسط، كان يمكن منع توسّع الصراع بين إيران وعملائها من جهة وإسرائيل وحلفائها من جهة أخرى. كان الصراع المتفاقم راهناً في الشرق الأوسط قد شَهِد أول هجوم مباشر من إيران ضد إسرائيل في 13 نيسان الماضي، وهو لا ينجم بكل بساطة عن سياسة أميركية ضيّقة وغير متماسكة ومجزأة على نحو مفرط تجاه إيران منذ أكثر من عشر سنوات.


منذ بدء ولاية الرئيس باراك أوباما الأولى، صبّت واشنطن تركيزها بشكلٍ شبه كامل على برنامج إيران النووي، فأغفلت عن نشاطاتها الأخرى، بما في ذلك تدخّلها المتزايد في شؤون المنطقة. كان أوباما قد تعهد خلال حملته الانتخابية الأولى في العام 2008 بوضع الاتفاق النووي مع إيران على رأس أولوياته للتعامل مع الشرق الأوسط، وقد سعى إلى تنفيذ ذلك الوعد بعد وصوله إلى السلطة.

في مرحلة مبكرة من هذه العملية، ظهر خلل واضح بين نظرة واشنطن إلى الوضع ورؤية طهران. افترضت الولايات المتحدة أن التواصل مع إيران في الملف النووي يسمح بكبح القدرات الإيرانية التخريبية في المنطقة، وكان ذلك الافتراض الدافع وراء التوقيع على اتفاق نووي أولي مع إيران في العام 2013. لكن احتفلت إيران بذلك الاتفاق باعتباره انتصاراً سياسياً وتابعت مسارها الاعتيادي. مع ذلك، أصرّت إدارة أوباما على مقاربتها سعياً لتوسيع نطاق الاتفاق النووي، فنجحت في العام 2015 في التوقيع على «خطة العمل الشاملة المشتركة».

حين كانت إدارة أوباما تتفاوض في شأن اتفاقاتها، وقع حدثان بارزان في إيران لكنهما لم يدفعا واشنطن إلى إعادة النظر بمقاربتها. يتعلق الحدث الأولى بنشوء «الحركة الخضراء»، وهي موجة وطنية واسعة من الاحتجاجات ضد التلاعب بانتخابات العام 2009 التي منحت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ولاية ثانية. سحقت السلطات الإيرانية تلك الحركة عن طريق العنف. وفي العام 2011، اندلعت احتجاجات شعبية في سوريا أيضاً وكانت جزءاً من ظاهرة «الربيع العربي». سارعت إيران إلى إرسال مستشاريها لمساعدة الرئيس السوري بشار الأسد على سحق الاحتجاجات، فحوّلت انتفاضة سلمية إلى حرب طويلة ودموية لا تزال مستمرة حتى اليوم. في غضون ذلك، تابعت إيران تطوير برنامج صواريخها الباليستية. لكن لم تُبعِد هذه التطورات كلها تركيز واشنطن عن الهدف المرتبط بإبرام الاتفاق النووي. مجدداً، اتّضحت الاختلافات الكبرى بين رؤية الولايات المتحدة وإيران.

وفق منطق واشنطن، كان التخصيب النووي يمثّل أكبر تهديد تطرحه إيران في الشرق الأوسط، فافترض الجانب الأميركي أن التعاون في هذا الملف، مقابل رفع العقوبات، يسمح ببناء الثقة بين الطرفَين. من وجهة نظر واشنطن، كانت تلك الثقة الناشئة لتتحول إلى ركيزة يمكن استعمالها لاحقاً للتواصل مع إيران حول مسائل أخرى مثل برنامجها الصاروخي وتدخّلها في الشرق الأوسط. لكنّ هذه الآمال الزائفة تغاضت عن الوقائع السياسية الإيرانية وسمحت لإيران بتوسيع برنامجها الصاروخي وتدخلاتها الإقليمية.

اليوم، يبدو أن المسائل الشائبة التي ركّزت عليها واشنطن في عهد أوباما بدأت تتكرر مع إدارة جو بايدن التي تُركّز بدورها على الاتفاق النووي، تزامناً مع تجاهل نشاطات إيران التخريبية الأخرى.

لكن حتى إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لم تبتعد كثيراً عن المسار الذي أطلقه أوباما ويتابعه الرئيس بايدن اليوم. في العام 2018، سحب ترامب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة» وأعلن بداية «حملة الضغوط القصوى» ضد إيران. لكن لم تطرح إدارته أي خطة للتعامل مع برنامج الصواريخ الباليستية أو التدخلات الإقليمية، مع أن نشاطات إيران في سوريا توسّعت مقارنةً بما كانت عليه في عهد أوباما.

لم تلتزم إيران بكافة بنود «خطة العمل الشاملة المشتركة» يوماً، لكنّ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق أعطى طهران فرصة للوم واشنطن علناً، فتحسّن رصيدها السياسي وسط مناصريها. استعمل ترامب عبارة «الضغوط القصوى» لوصف استراتيجيته تجاه إيران، لكن لم تكن التدابير التي فرضتها واشنطن متطرفة على أرض الواقع، فقد اقتصرت على تصنيف «الحرس الثوري الإيراني» كمنظمة إرهابية في العام 2019، واغتيال القائد البارز قاسم سليماني في العام 2020، وفرض عقوبات إضافية.

لم تكن تدابير إدارة ترامب كافية لدفع إيران إلى تغيير تصرفاتها، بل إنها زادتها جرأة. كذلك، لم تتوقف المعاملات المالية التي يقوم بها «الحرس الثوري الإيراني» بعد تصنيفه كتنظيم إرهابي لأن هذه المجموعة لا تتكل على شبكات مصرفية دولية. استُعمِل موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قال إن ذلك التصنيف حصل «بطلبٍ منه» لدعم فكرة إيران القائلة إنها تتحدى مساعي أعدائها الرامية إلى إيذائها. في الوقت نفسه، لم يكن اغتيال سليماني كافياً لتفكيك «الحرس الثوري الإيراني»، فتابعت هذه الجماعة نشاطاتها التخريبية. واجهت إيران تداعيات مالية بسبب العقوبات، لكنها لم تكن كافية لتغيير سلوك النظام.

على صعيد آخر، استفادت إيران من ردّ إدارة ترامب البارد على الاعتداءات التي نظّمتها مع عملائها ضد أهداف أميركية في الشرق الأوسط. لامت واشنطن طهران على استهداف منشأة «أرامكو» النفطية البارزة في المملكة العربية السعودية على يد الحوثيين اليمنيين، في العام 2019، لكنها لم تطرح أي سياسة قوية للتعامل مع اليمن بحد ذاته. بدأت تداعيات ذلك الإخفاق تتّضح اليوم في سياق الحرب المستمرة بين إسرائيل وحركة «حماس».

من وجهة نظر طهران، خسرت واشنطن صدقيتها أيضاً بسبب غياب أي رد سياسي أو عسكري قوي. عندما ضايقت زوارق سريعة تابعة لـ»الحرس الثوري الإيراني» السفن البحرية الأميركية في الخليج العربي في العام 2020، فضّلت الولايات المتحدة الامتناع عن الرد. وفي أواخر تلك السنة، فشلت إدارة ترامب في تمديد قرار حظر الأسلحة الصادر عن الأمم المتحدة بحق إيران، وهو إجراء انتهت صلاحيته في تشرين الأول 2020. في النهاية، فرضت واشنطن ذلك الحظر بشكلٍ أحادي الجانب. اعتبرت إيران هذا السيناريو تأكيداً على عزلة الولايات المتحدة الديبلوماسية. وعندما فرضت واشنطن عقوبات إضافية على طهران في تلك السنة نفسها، ردّ الإيرانيون عبر زيادة تخصيب اليورانيوم.

كذلك، استفادت إيران من قلة اهتمام الولايات المتحدة بتدخلاتها الإقليمية المتواصلة، علماً أن هذا الموقف استمر على مر إدارات أوباما وترامب وبايدن. سمح هذا الإهمال للحوثيين بترسيخ مكانتهم في اليمن، وسهّل بقاء نظام الأسد في السلطة، وزاد قوة «حزب الله» كلاعب سياسي أساسي في لبنان. في الوقت نفسه، استفادت من هذا الوضع جماعات مسلّحة أخرى مدعومة من إيران في الشرق الأوسط، بما في ذلك «حماس»، فاكتسبت المزيد من الأسلحة، والتمويل، والتدريبات من إيران.

بعد 15 سنة على تطبيق سياسات أميركية ضيقة ومجزأة تجاه إيران، يُفترض ألا يتفاجأ أحد باندلاع الحرب في الشرق الأوسط اليوم، بدءاً من 7 تشرين الأول 2023، حين أطلقت «حماس» المدعومة من إيران هجومها، إذ تنجم عدائيتها المتزايدة أصلاً عن فشل الاستراتيجية الأميركية في الملف الإيراني.

لا يشتق صمود إيران الظاهري من قوتها الكامنة بكل بساطة، بل ينجم أيضاً عن قلة الكفاءة الاستراتيجية الأميركية. بعبارة أخرى، زادت التحركات الأميركية قدرة إيران على التصرف كقوة تخريبية في الشرق الأوسط.

ربما يتعلق العامل الإيجابي الوحيد منذ أحداث تشرين الأول بانكشاف إيران كدولة معزولة وهشة خلال هذا الصراع. عندما هاجمت إيران إسرائيل، حصل الإسرائيليون على المساعدة من حلفائهم وشركائهم للدفاع عن أنفسهم. في المقابل تفتقر إيران، رغم وفرة عملائها، إلى شبكة دفاعية قوية بالقدر نفسه.

قد تكون هذه الأحداث الأخيرة فرصة ذهبية كي تغيّر الولايات المتحدة طريقة تعاملها مع إيران. يُفترض أن تشمل أي استراتيجية جديدة تقوية التواصل مع حلفاء واشنطن الإقليميين لطرح إطار أمني عملي في الشرق الأوسط، ما يعني أخذ المبادرة في عمليات السلام في سوريا واليمن، وإعادة إحياء عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بطريقة تُحدد دور إيران الحقيقي.

لكن لا شيء يشير إلى استعداد الولايات المتحدة لتصميم سياسة شاملة لمعالجة التهديدات التي تطرحها طهران على استقرار المنطقة. تحمل سياسة واشنطن تجاه إيران جوانب مشابهة لسياستها مع سوريا، علماً أن جمود إدارة أوباما التي تمسّكت بتلك المقاربة ترافق مع تداعيات مريعة.

طالما تحافظ الولايات المتحدة على موقف جامد بالقدر نفسه من إيران، سيُتابع الشرق الأوسط تحمّل عواقب تحركات طهران التخريبية.