نوال نصر

بالإيمان نتقبّل الألم ونتقدّس فيه

حين تشتدّ الصعاب وتتدخّل العذراء

15 آب 2020

02 : 00

نظرت الى السماء، رسمت علامة الصليب، مسحت دمعتين تسللتا من عينيها وراحت تتحامل على وجعها مرددة: "يا عدرا... يا عدرا...دخيل إسمك يا عدرا". لم يغب اسم السيدة العذراء، أم يسوع، عن مناداة المسيحيين والمسلمين، منذ اشتدّ الظلام عليهم وفاحت رائحة الموت. كانت حاضرة، منذ عصر ذاك الثلثاء الرهيب، في البال والقلب والطلبات والصلوات والتشفعات. العذراء مريم اليوم عيدها وفي العيد ننتظر مفاجآت وأعاجيب وبعض الفرح. هكذا نحن نطلب لنحصل ونبحث لنجد... لكن، ماذا لو لم تستجب العذراء؟ ماذا لو لم تُتمم طلباتنا وتحصل الأعجوبة؟

هي السماء الثانية، هي الشفيعة وأم يسوع، وليس أحنّ في الدنيا، على الناس أجمعين، من قلوب الأمهات. والعذراء أم كل العالم، هي أقوى وأعلى شفاعة في الكنيسة. لكن، حتى هي تألمت وهي تشاهد إبنها معلقاً على الصليب، مضطهداً، مهاناً. حتى هي، المباركة بين النساء، حزنت كثيراً وبكت كثيراً. فالألم موجود والأعجوبة أيضاً موجودة. لكن، هل للألم مفاعيل أبعد بكثير مما ندرك؟

راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون يشير الى "دقة هذا الموضوع" ويقول: "كون العذراء مريم أم الله في الكتاب المقدس، كان لها الدور الفعال في الخلاص الذي حققه ابنها، وبالتالي هي، بلا شك، قريبة من إبنها ويمكننا الإلتجاء إليها وقادرة على تحقيق الأعجوبة. لكن، ما يجب أن يدركه المؤمنون أن الصلاة الى العذراء يجب أن تكون من باب، أو لنقل من مدخل، إرادة الربّ. فإرادة الربّ قد تحمل رسالة من المرض لا من الشفاء، لهذا يجب ألا تكون صلواتنا فقط لمجرد الشفاء بل للحصول على النعمة من خلال إرادة الله وتقديسه. يجب ان تكون صلواتنا دائماً، وحين تشتدّ علينا الصعاب خصوصاً، ان نتمّم رسالة الحياة الأبدية ونربح الملكوت في السماء".



عينها على لبنان



ما رأي مطران طائفة السريان الأرثوذكس جورج صليبا بأوجاع الناس وشفاعة العذراء؟

يتحدث صليبا عن أن "اللجوء الى العذراء نافع والإستعانة بها مفيد، لذلك نلجأ إليها في أيام الرفاهية وأيام الضيق، ونطلب منها أن تكون معنا ونرتل لها: "وإن كان جسمك بعيداً منا، أيتها البتول أمنا، صلواتك هي تصحبنا وتكون معنا وتحفظنا". فالعذراء وإن انتقلت بالنفس والجسد الى السماء لكننا نطلب تدخلها مثلما حصل في عرس قانا الجليل، حين قام يسوع بتحويل المياه الى خمر، وحصلت أولى معجزات يسوع المسيح. هي "توسطت" فتمّت المعجزة. ويستطرد صليبا بالقول: يمكننا أن نطلب من يسوع لكن ثقتنا بشفاعة السيدة العذراء، أم الله، تجعلنا نلجأ إليها. ونحن عالمون أنها تقف عند أبواب السماء حاملة الصليب بيدها. نحن نسألها بجاه هذا الصليب وبجاه المسامير التي ضربت بيدي ورجلي وحيدها ان تصرف قضبان الغضب عنا. نحن نطلب صلاتها وشفاعتها". ويستطرد مطران السريان الأرثوذكس بالقول: "نحن، جماعة السريان، نرفض التعبد للعذراء بل نكرمها ونُقبل يمينها ورجليها لكن لا نتعبد لها. فنحن نعمل بمقولة الكتاب المقدس "بأن أبانا الذي في السماوات وحده نسجد له ونعبده". لا لا نعبد لا مارافرام ولا ماريعقوب ولا كل القديسين بل نطلب شفاعتهم عند الله".

العذراء شفيعتنا والرب إلهنا. لكن، عند الوجع الكبير، نلتجئ إليها بعفوية. ونلحّ عليها. وقد نتشاجر معها أحياناً ربما لأننا نعرف أن الأم هي الأحن على أولادها وهي أمنا جميعاً. لكن، كيف يمكن أن تجيب الكنيسة من صلوا كثيراً لعودة إبن رماه عصف انفجار لئيم في البحر أو شلّعه على اليابسة؟ وكيف تجيب من أصبح بلا عمل ولا رزق وهو طالما تضرع الى العذراء طالباً العون؟ يجيب المطران عون: "يقول ماربطرس الرسول: "إذا كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس"، فيسوع لم يأت ليجد لنا عملاً بل ليعطينا أن نكون أبناء الله ونربح الملكوت. هو سمح أن نتألم في سبيل أن نتقدس. ولتكن مشيئته".



صلّوا ولا تملّوا



هل هذا يعني أن يتقبل المؤمنون أن وراء الألم الذي يشعرون به رسالة عظيمة ونعمة وقداسة؟ يجيب مطران أبرشية جبيل المارونية: "الألم واقع بشري، وإذا كنت أطلب وألحّ من أجل كل ألم أشعر به بحصول أعجوبة سماوية، فهذا معناه أني أرفض واقع المسيح الذي مشى فيه للخلاص. ويجب ألا ننسى أن اليهود حين قالوا ليسوع: "إذا كنت ابن الله فخلّص نفسك وانزل عن الصليب"، قالوا له أن ينزل ليؤمنوا به وهو طبعاً لم يفعل. وهذه التجربة رسالة لنا جميعاً "فمن قرر أن يؤمن بالمسيح وأن يتبعه عليه أن يحمل صليبه دائماً".

اللبنانيون يعانون اليوم كثيراً. الموت كثير. الخراب كثير. والتضرعات أكثر بكثير مما يتخيل البعض. وهناك، في قلب الألم، في عزه، حين يشتدّ، يستسلم ويغضب ويلوم العذراء والقديسين والسماء والربّ. الغضب حالة. الغضب جنون موقت. ولا بُدّ أن يعود المؤمن بعد حين الى فهم بُعد الألم مهما كان هائلاً، عظيماً. فبإيماننا نتعلم كيف نتقبل الألم ونتقدس فيه.

نعود الى المطران صليبا لنسأله عن وجود العذراء في أنفس المؤمنين. يقول: "حين يعجز الأطباء والبشر عن تقديم الشفاء، ولئم الجراح، نسأل الروح القدس ذلك ونطلب من العذراء مريم ان تصلي معنا لأنها أمنا الحنونة وكنز الرحمة والمعونة". فلتتشفع لنا عند الرب. ولنتيقن أن المستحيل ليس له معنى طالما العذراء معنا، لكن ثمة رسائل قد لا نفهمها في حمأة غضبنا ولا بُدّ أن نكتشفها تباعاً.





اليوم عيدها، اليوم عيد السيدة العذراء، التي لها في لبناننا 1300 كنيسة و3000 مذبح. لكن، لماذا نراها تلبس غالباً اللون الأزرق الفاتح بلون السماء والأبيض؟ يقول الباحث جان صدقه: "كانت العذراء تُصوّر غالباً بثياب سوداء علامة على الحداد على وفاة ابنها يسوع، وكان التركيز على الحب الذي كان لديها لابنها وآلامه عندما مات على الصليب، وتدريجياً، مع بداية العصور الوسطى، أي بين القرن الحادي عشر والخامس عشر، تغيّر لون عباءة مريم من الأسود الى الازرق، الذي يمثل السماء الذي حلّ في بطنها الله المتجسد، فأصبحت سماء لهذا الإبن، وأصبح الأزرق يشير الى الحق السماوي. اللون الأزرق هو لون السماء وهو لون اللانهاية والمسافة والحلم لأنه مرتبط بالسلام. أما اللون الأبيـض، في طرحــة العـذراء، فهو رمــز الطهارة والنقـاء بلا دنس والــــــــوداعة. الأبيض هو لون النور الإلهـي والنعمة والقداســـــة والبساطـــــة".


ومــــــاذا بــــــعـــــد؟


كم من نساء في لبنان يتّشحنَ اليوم بالسواد الحالك على ابن وابنة وزوج وأب وأم وحفيد وشقيق وشقيقة. كم هو حجم الألم كبير في لبنان. وكم من غاضبٍ على كل شيء، كل كل شيء، على الدولة والمسؤولين وعلى السماء والقديسين. لكن، إذا كان أهل الأرض، ممن يُمسكون الرقاب، قد أخطأوا كثيراً فإن تضرعاتكم الى السماء، عبر العذراء، لها بعد آخر ولتقبّلكم الألم تقديس من نوع آخر. فلنظل نصلي ولننزع عنا السواد ونرتدي الأزرق السماوي والأبيض. فالظهور بهذين اللونين اليوم فيه، من حيث لا يدري الكثيرون، راحة وسلام. فيه ارتباطنا مع اللانهاية. فليكن عيد العذراء مريم رجاء دائماً بنعمٍ، وإن تأخرت، آتية.



MISS 3