معروف عن البطريرك صفير هدوءه وتفضيله تجنّب المواجهات المباشرة والحادّة. ولكنّه في موضوع تعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّراً رسولياً بقرار من البابا يوحنا بولس الثاني، بدا وكأنّه يتحدّى ويرفض ويواجه خصوصاً إذا كان الأمر يتعلّق بالكنيسة المارونية واستقلاليتها، وبمحاولة المسّ بموقعه. وهو لا يخفي الخلاف الكبير مع الحلو الذي حاول إبعاده عن بكركي في محاولة لتركيز سلطاته الجديدة بعدما كشف له أنه تبلّغ في الفاتيكان قرار تعيينه قبل أن يتبلّغه البطريرك خريش. بدا من خلال تدوينات البطريرك أنّ المعركة كانت معركة وجود بينه وبين الحلو: من يبقى في بكركي؟
ما كان يختلج في قلب المطران صفير وتفكيره وما لم يعبّر عنه صراحة أمام المدبّر كان يتم العمل على بلورته علناً. في 16 كانون الأول 1985، عند الساعة التاسعة صباحاً عُقد اجتماع في مطرانية بيروت حضره المطارنة الموارنة ووقعوا كتاباً موجهاً إلى البابا يطلبون فيه انتخاب بطريرك جديد خلفاً للبطريرك خريش. وقد كان تم الاتفاق على صيغة هذا الكتاب خلال اجتماع عُقد في المكان عينه في اليوم السابق عند الساعة الثالثة بعد الظهر.
كتاب اعتراض إلى البابا
كان هذا الكتاب يحمل أكثر من هذه الدعوة. كان بمثابة تعبير عن امتعاض المطارنة من تجاوز رأيهم في اختيار البطريرك ومن المساس باستقلال قرار كنيستهم. ولكنّه كان ربّما بسبب عدم القدرة على التفاهم مع المدبّر الحلو أو بسبب الغيرة منه، حيث أنّ بعضهم كان يأمل بأن يُنتخب بطريركاً. وعلى رغم ما أحاط تلك المرحلة من غموض، لم يُعرف وقتها ما إذا كان لهذا الاجتماع وللكتاب الذي صدر عنه علاقة بعودة البطريرك خريش من الخارج، خصوصاً أنّ هذه العودة كانت قبل يومين من ذاك الاجتماع. ولم يُعرف وقتها أيضاً ما إذا كان المطران صفير هو الذي يقف وراء بلورة هذا التحرك انطلاقاً من خدمته في المقر البطريركي منذ العام 1956، وكونه معاوناً بطريركيا للبطريرك خريش بعدما كان كذلك الى جانب البطريرك المعوشي، وهذا ما أهّله التعرّف عن كثب على سائر المطارنة.
ما يثير هذا التساؤل هو أن صفير سيحمل هذا الاعتراض إلى الفاتيكان لينقله شخصياً إلى البابا يوحنا بولس الثاني بعد شهر تقريباً. فمن خلال تدويناته في يومياته، تكثر انتقادات صفير للحلو حيث يقول في إحداها مثلاً: «يبدو أن ثقة المدبّر كبيرة بنفسه. وكان ذلك قد ظهر في تموز الفائت في حديث سابق له إثر زيارة الكاردينال أتشيغاراي الى جزين، وهي الزيارة التي رافقه فيها المدبّر، ولم يكن آنذاك مدبّراً بعد.
وقد ذكر أنّ أتشيغاراي قال فيه: «إنه لا فخر قريته وحسب، ولا أبرشيته، ولا الكنيسة المارونية، بل الكنيسة جمعاء». وقال أيضاً: «عندما دعت الحاجة إلى انتخاب مطران روم كاثوليك في صيدا قال أحد أعيان طائفة الروم: ليكن كالمطران ابراهيم الحلو وإلا فلا». ويتابع صفير: «وذكر عن الشيخ بشير الجميل أنّه دعاه مثلما دعاه سواه إلى مغادرة كرسيه في صيدا أثناء الاحتلال الإسرائيلي وبعده لما يتهدّده من أخطار، ولكنّه أبى، مما حمل الشيخ بشير على القول: «لقد ألقانا في الجورة، أي أنّه تجاوزنا في مجالات الشجاعة والمخاطرة بالنفس».
ويعلّق صفير قائلاً: «سمعنا وقلنا، من واضع نفسه ارتفع». وفي هذا التعليق تكمن نظرة صفير الإنتقادية السلبية تجاه الحلو لأنها تخفي تهمة بالتكبّر وعدم رؤية الواقع على حقيقته، وربما يخفي أيضاً حقيقة أنّ صفير كان يحرّك المطارنة للإنتهاء سريعاً من مرحلة «تصريف الأعمال» في البطريركية والعودة الى الوضع الطبيعي من خلال انتخاب بطريرك جديد. فهل كان صفير يعتبر أنه سيكون ذلك البطريرك؟ وهل شعر المدبّر بالدور الذي كان يقوم به أو هل كان يتهمه بأنه هو الذي يقف وراء حركة المطارنة؟ وهل خطط لإبعاده عن بكركي؟
الحلو يتحدّى صفير
مساء اليوم التالي للكتاب الذي أعدّه المطارنة، إستمع صفير إلى نشرة الأخبار مع المطران رولان أبو جودة قبل أن يجتمعا في مكتبه مع المدبّر الحلو. عن هذا الاجتماع يقول صفير: «كان يحمل إضبارة زرقاء. فتحها وأخرج منها ورقة وقال: هناك تعليمات من المجمع الشرقي عليّ أن أنقلها إليكما. وتلا ما في الورقة، ومضمونه: أن ولاية النواب البطريركيين تسقط بسقوط ولاية البطريرك، وبإمكان النائبين البطريركيين أن يحتفظا بمنصبهما في بكركي أو أن يذهبا للإقامة في الأبرشية البطريركية، لأنّ التعليمات تقضي بانتخاب مطرانين أو ثلاثة للأبرشية البطريركية. فإذا اخترنا الإقامة في بكركي انتخب مطارنة للأبرشية، وإذا أقمنا في الأبرشية (جبيل، كفرحي، الديمان، دير الأحمر) انتُخِب مطرانان لبكركي، غير أن المطران الذي سيقيم في بكركي يجب أن يكرّس نشاطه لبكركي، وليس له أن يتعاطى شؤون الأبرشية البطريركية، كأن يهتم من وقت الى آخر بأمر رعائي كالأخويات والشباب». وأضاف قائلاً: «ما يمنع أن يعقد كل أحد مثلاً اجتماعاً في حريصا لفئة معينة من فئات المؤمنين بعد أن استفسر عن وضع مزار سيدة لبنان من حيث الولاية عليه، هل هي للبطريرك أم لمطران أبرشية جونية. فأجبنا أن الأمر عالق في روما».
المدبّر كان يعلم قبل البطريرك
ويكتشف صفير في هذا الاجتماع سرّ القرار البابوي كما رواه له المدبّر المطران الحلو، حيث يظهر أنّه كان تبلّغه قبل سفره مع البطريرك خريش إلى روما، حيث ينقل صفير عنه قوله: «أخبرنا كيف أنه دُعِيَ إلى روما وبلّغه أمين سر المجمع الشرقي ماروشين وأمين السر المعاون ريتزي، والمسؤول عن القضايا المارونية فانتوري، ومستشار المجتمع القانوني بروجي، تعيينه مدبّراً، وأنّه حاول الرفض فلم يقبلوا، وطلب أن يعيّن مع مطران آخر فقالوا له إنّ هذا غير قانوني، وأخذ أحدهم كتاب القوانين وتلا فقرة منه تقول باستحالة إقامة لجنة وتوجب الاكتفاء بمدبّر واحد. وأكد أنّه استأذن بإعلان البطريرك خريش بالتدبير، فلم يؤذن له بذلك وأُلزِم بحفظ السر حفظاً تاماً. وقابل البابا وحاول الاستعفاء فلم يُعفِه، وقال له لقد استشرت ودرست وفحصت وصليت وأخذت القرار، فهل يرفض قرار البابا؟».
ويتابع صفير نقلاً عن الحلو أنه «طلب من البابا تأجيل إعلان القرار إلى ما بعد 17 تشرين الثاني موعد تطويب الراهبة رفقا، فقبِل ووعد بإعطاء تعليمات للمجمع الشرقي بذلك، لكن تبيّن أنّ التعليمات لم تعطَ في وقتها. وعاد المدبّر من روما وسأل السفير البابوي أنجيلوني عما إذا كان قد تلقى تعليمات، فأجيب أنّ التعليمات وردت ويجب إعلانها. وجاء مع السفير إلى بكركي حيث اختليا بالبطريرك خريش حوالى ثلاث ساعات، ولما تبلغ البطريرك خريش حاول الامتناع عن الذهاب إلى روما للمشاركة في حفلة التطويب، لكنّه عاد فقبل بالذهاب. وأرجئ إعلان التدبير حتى 25/11/1985».
وتشعّب الحديث كما يروي صفير مضيفاً: «وسأل المطران أبو جودة: ألا يمكننا أن نُنقَل الى أبرشية نستلمها؟ أجاب المدبّر: بلى إذا كان هناك أبرشية شاغرة. وكانت طريقة التبليغ جافة صارمة، إنّما في جو هادئ والعاطفة الوحيدة التي بدت في الحديث كانت أنّنا قمنا بالواجب في الأبرشية البطريركية بطريقة نُشكر عليها. وبعد أن ترك المدبّر حوالى العاشرة إلا ربعاً تابعنا الحديث مع أبو جودة، واستعرضنا ما تكبّدناه من مشقّة في إدارة الأبرشية البطريركية، هو طوال عشر سنوات، وأنا طوال خمس وعشرين سنة، بالإضافة الى خمس سنوات قضيتها كاهناً وأمين سر البطريركية».
أزمة بكركي والإتفاق الثلاثي
كان واضحاً أنّ هذه المسألة كان لها تأثير سلبي عميق في نفس المطران صفير، وقد بدا هذا الحزن من خلال ما كتبه.
الأربعاء 25 كانون الأول 1985، في مناسبة عيد الميلاد، حضر رئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميل القداس الساعة الثامنة صباحاً إلى بكركي، وقد احتفل به المدبّر الرسولي، وألقى كلمة تمنّى للرئيس النجاح في إعادة السلام إلى لبنان. وحضر البطريرك خريش على العرش. وكان المدبّر قد وجه رسالة الميلاد إلى اللبنانيين والموارنة في لبنان والبلدان العربية والمهاجر.
كل ذلك كان يحصل بينما كانت المناطق الشرقية على موعد مع تحوّل كبير من خلال إصرار رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات» إيلي حبيقة على توقيع الاتفاق الثلاثي في دمشق. ولم يكن هناك موقف حازم في بكركي ولدى المدبّر، بل تمّ الاكتفاء باستضافة اللقاءات المسيحية الموسعة التي بحثت في هذا الموضوع، بينما سيظهر لاحقاً أن صفير لم يكن يخفي معارضته لهذا الاتفاق، معبّراً بوضوح في كتاباته عن هذا الرفض. وقد كتب حول هذا الموضوع: «يوم الجمعة 27 كانون الأول، عُقد اجتماع في السادسة مساء في بكركي اشترك فيه بعض المطارنة الموارنة، وعدد من النواب الموارنة والوزراء السابقين والفاعليات للبحث في الاتفاق الثلاثي الذي سيوقع قريباً في دمشق، والذي ينهي الحرب، ويغيّر النظام السياسي اللبناني في بعض جوانبه، ولا سيما إلغاء الطائفية السياسية، والمناصفة بين النواب المسيحيين والمسلمين، وإعادة تأهيل الجيش على يد السوريين».
*يتبع الأربعاء 22 أيار
صفير إلى الفاتيكان: المركب والباخرة ودوار البحر