رامي الرّيس

"إذهب إلى جهنم"!

«إذهب إلى جهنم»، هكذا ردّ الموظف اللبناني في أحد فنادق العاصمة بيروت على اتصال مفاجئ وغير متوقع ورده من مذيع على الهواء في القناة التلفزيونيّة الإسرائيليّة. كان الرد صاعقاً ومستحقاً لإتصال وقح هدفه الوحيد إثارة الضحك على الهواء فنال نصيبه من الرد الهادف.

الغريزة السياسيّة، كما عقل الموظف اللبناني وسرعة بديهته هي التي تولت الرد. لم يكن الرجل في مهرجان خطابي تعبوي أو في مناظرة تلفزيونيّة، بل كان في مركز عمله كالمعتاد وإذ به يتلقى إتصالاً هاتفياً من قلب دولة الإحتلال الإسرائيلي، وهو عكس بتصرفه هذا وطنيّة لبنانيّة وعربيّة عالية.

بإمكان الحكومات الاعتراف بالاحتلال وتوقيع الاتفاقيات معه، والذهاب في خطوات تطبيعيّة تدريجيّة في المجالات المختلفة، ولكن ليس ضرورياً أن ينسحب ذلك على المناخ الشعبي، وأن تنخرط الشعوب في هذا المسار، لا بل ثمة قطاعات واسعة منها قد تسلك المسارات المعاكسة تماماً متغاضية تماماً عن القرارات الحكوميّة والرسميّة في هذا المجال.

أساساً، إذا كان هناك دليل إضافي ساطع على البون الشاسع بين الحكومات العربيّة وشعوبها، فإن هذا المجال يُقدّم مثالاً إضافياً على الأمر، وهو يدعو للتساؤل مجدداً عن مآلات الواقع العربي خصوصاً على ضوء المنعطف التاريخي الذي تمر به القضيّة الفلسطينية مع استمرار الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة التي تتواصل فيها كل أشكال الفظائع دون هوادة على مرأى ومسمع من العالم.

لعل المسار السياسي الجديد الذي اتخذته ثلاث دول أوروبيّة هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج للاعتراف بالدولة الفلسطينيّة يكسر مسار الأمور ويجعلها تنعطف في اتجاهات جديدة مغايرة عن المسار الحالي الذي انطبعت فيه القضيّة الفلسطينيّة منذ نكبة 1948 أي إنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بإقامة دولتهم المستقلة القابلة للحياة، أو على الأقل إعطاء الدفع مجدداً لحل الدولتين الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى «معزوفة» تتكرر في الأدبيّات الأميركيّة والغربيّة عموماً من دون إرفاق ذلك بأي خطوات ميدانيّة تمنع إسرائيل من مواصلة سياسة التوسع الاستيطاني لجعل الحل مستحيلاً.

منذ إستضافة العاصمة الإسبانيّة مدريد مؤتمر السلام في الشرق الأوسط الذي بُني على فكرة «الأرض مقابل السلام»، ومن ثم تبنّي المبدأ ذاته في قمة بيروت العربيّة التي عُقدت عام 2002؛ لم تتوانَ إسرائيل عن ضرب كل مرتكزات الحلول السلميّة ببساطة لأنها تقع على طرفَي نقيض مع العقيدة الصهيونيّة التي لا تتقبّل فكرة التسوية بأي شكل من الأشكال.

يقول المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونيّة إيلان بابيه في كتابه الشهير: «التطهير العرقي في فلسطين» (مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، بيروت 2022) إن «التعريف العام لمكوّنات التطهير العرقي ينطبق حرفيّاً، تقريباً، على حالة فلسطين. وقصة ما جرى في سنة 1948، بحد ذاتها، ليست معقدة. لكن هذا ما يجعلها تبدو، تبعاً لذلك، فصلاً مبسطاً، أو هامشياً، في تاريخ طرد الفلسطينيين من وطنهم» (ص 8).

الإبادة الجماعيّة هي إبادة موصوفة تستكمل فيها إسرائيل ما قامت به منذ ما قبل سنة 1948، أي منذ ما قبل إعلان «دولتها» على أرض فلسطين والذي تسميه زوراً «إعلان الإستقلال»! وفي الإبادة المستمرة لم توفر إسرائيل وسيلة إلا واستخدمتها للقضاء على الشعب الفلسطيني ولجعل قطاع غزة منطقة غير قابلة للعيش، فاستهدفت البشر أولاً ومن ثم المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الثقافيّة والاجتماعيّة ودور الحضانة والزراعة والبيئة وسائر القطاعات الحيويّة.

المشروع الإسرائيلي كان ولا يزال تهجير الفلسطينيين وطردهم من أرضهم. ولكن، كما قال عامل الفندق اللبناني الشجاع: «إذهبوا إلى جهنم».