جيمي الزاخم

ناجي حوّاط... حارسُ ذاكرة التلفزيون

كان طفلاً. الشّاشة سلوتُه المفضَّلة. مرجوحته حبالٌ من صوت وصورة. في منزله، يقطف من حدائق القنوات التلفزيونية وبرامجها وحفلاتها. إنّه ناجي حوّاط. مؤسّس قناة «أرشيف الزمن الجميل» على اليوتيوب وسائر مواقع التواصل الاجتماعيّ. أطلقَها منذ ثلاث سنوات. عمرُ مضمونها يعود إلى أكثر من ثلاثين سنة. حياةٌ تتنفّس شغفاً. أثمرتْ آلافَ الأشرطة والسّاعات الفنّية التلفزيونية. تشمل الثمانينات، التسعينات وأعوامَ الألفيّة الثالثة.



سحرَ بريقُ الفنِّ حوّاط الطفلَ. التقط لمعةَ نجوم من على صفحات المجلّات الفنّية المهمّة آنذاك. قرأها إلى جانب جدّه فؤاد. غادر الصورَ، الحوارات والأغلفة. دخل الطفلُ إلى مُخيّلته. اصطحب أحلاماً مع مشاهيرَ من لحم وصوت. حمل افتتانَه من عالم المكتوب إلى المرئيّ والمَسموع. في سرده مع «نداء الوطن»، ينطلق ناجي حوّاط من النّصف الثاني للثمانينات مع ابن الإثني عشر عاماً: «كنتُ أدرس وأجتهد لئلّا أواجَه بالعقوبة الأقسى: الحرمان من مشاهدة التلفزيون. لم أتعلّقْ بالرسوم المتحرّكة كسائر أطفال جيلي». يُنهي الطفل دروسَه. ينتهي النهار. تنتهي نشرة الأخبار. ويبدأ عرض أفلام، مسلسلات وبرامج. سَهِر ناجي معها: «أنتظرُها كطقس مقدَّس. حفظتُ أسماء ممثّلي الأفلام ومخرجيها. في زياراتي المتكرّرة لمحالّ تأجير الأشرطة، كنت أكسبُ كلّ مرة الشرطَ مع صاحب المحلّ: إذا سمّيتَ لي مين مخرج الفيلم وكادر الممثلين، أعطيك الشريط مجّاناً».

ورويداً وحبّاً، ادّخر من مصروفه الشخصيّ. اشترى شرائط فارغة. سجّل عليها الحفلات وحلقات البرامج. حسب ما تُخبره ذاكرته، إنّه افتتح التسجيل بحلقات «ضيوف السبت» و»استوديو الفن» 1988. «بدايةً، سجّلتُ حلقات مختلفة على الشريط نفسه. فمُحيَ القديم ليبقى الأحدث». ثمّ صار الشريط ملِكاً. لا يُستبدل مضمونه بمادّة جديدة. برنامجاً تلو برنامج، وعاماً تلو عام، تزايدت الأشرطة. دوريّاً، وضّبَها في صناديق. حملَها من شقّتهم في الدورة إلى المنزل الصيفيّ في بكفيا. في المستودع، ينام 2500 شريط مع ما يفوق 7500 ساعة تلفزيونية.

بقيت هذه الثروة في سباتها. في نيسان 2021، استيقظت. غسل ناجي وجهَها. أخرجها من العتمة. وأدخلها وقلبَه إلى العالم الرقميّ. «بحثتُ على اليوتيوب عن أغنية مادونا «اللّيلة حلوة». قدّمتْها في برنامج «أبراج الفنّ» عام 1990. وعندما لم أعثر على هذه النسخة، أخرجتُها من أرشيفي. ونشرتُها على «الفيسبوك». منذ نعومة وَعْيِه، أُعجب ناجي بمادونَتِه. استهواه فنّها وإطلالاتها ولوحاتها الاستعراضية. «وبعد نشر»اللّيلة حلوة»، تواصل معي أحد معجبي مادونا. اقترح عليّ إنشاء قناة خاصّة بالفنّانة تعرض أغانيها التي جمعتُها». وهذا ما كان. بدايةً، افتتح قناةً باسمها. وفي 4 آب 2021، أطلق صفحته «ناجي حوّاط / أو أرشيف الزمن الجميل». طيلة أشهر، بقيت كلّ الفيديوات عن مادونا. وفي أيار 2022، توفّي الممثل المصريّ سمير صبري. «نشرتُ مقتطفاً من حفل شاركتْه فيه الراقصة داني بسترس في «الكورال بيتش» عام 1992». من حينها، كرّت السبحة وتدفّقت الفيديوات. واستلذّ حوّاط بالتجربة.

هي أشبه برحلة سفر عبر الزمن. مَن عاصر تلك السنوات، يشاهدها ليسترجع نفسَه وزمانه. ومن وُلد بعدها، يطلّ من نافذة القناة على أجواء الفنّ آنذاك. لقطات ولحظات غير مُتداوَلة. تقارير، حفلات، حلقات، برامج ألعاب ومسابقات والكثير الكثير. أصوات وهويّات مختلفة. باقة تلفزيونية من أرشيف غيّبه الموت أو الإهمال أو التجارة. أمامكم بدايات وائل كفوري ونوال الزغبي وعاصي الحلّاني... تجتمعون بنجوى كرم ومعين شريف وماري سليمان... إطلالات لوديع الصافي، الشحرورة، وداد، سميرة توفيق، شريفة فاضل، ملحم بركات، ماجدة الرومي والكثير الكثير... رقصات سمارة، هويدا الهاشم، أماني وداني بسترس ونجوى فؤاد... ضحكات من فاديا الشراقة وسمير غانم وفريال كريم وباسم فغالي والكثير الكثير.

أكثر من 20 سنة مؤرشَفة. إنّها حياة كاملة. «كنتُ أوزّع شاشات التلفزة وآلات التسجيل بين غرفة الجلوس والنوم والسفرة لئلّا يفوتني شيء». حتى يومنا هذا، تمّ تحويل ما يقارب نصف الشرائط من نظام الفيديو المنزلي VHS إلى CDs. يتولّى هذه المهمّة شابّ خبير. يستلمها حوّاط منه. ويُدرجها في حاسوبه ضمن ملفات مخصّصة لأكثر من 170 شخصية. (والكثير من الأفلام المُحوَّلة لم تُنشرْ بعد). يعطي ناجي الوقت والجهد «لأنّني مبسوط وفخور أنّ هذه الفيديوات تُتَداول. وتُثني الرسائل على هذا المجهود الفرديّ». تنتابه غصّة. يعتب على مؤسسات إعلاميّة تستخدم مقتطفاته دون أن تذكر مصدرَ الفيديو المُذيَّل باسمه. لا يبتغي حملات دعائية رقميّة تؤمّن أرتالاً من المتابعين ومردوداً ماليّاً أكبر من المحصَّل. بعض الفيديوات شاهدها مئات الآلاف كغناء آلان مرعب أو أداء نجوم الحلم العربيّ في ساحة الشهداء. تتصدّر أغنية سميرة توفيق «بسك تجي حارتنا» بمليون و300 ألف مشاهدة. «الدائرة تتّسع. وأُلبّي أذواقاً متنوّعة ومتَباينة. أعمار المتابعين تتوزّع من 12 سنة إلى ما فوق السبعين. من أكثر من 50 دولة، هناك عرب ومغتربون يتفاعلون وينتظرون المحتوى والذكرى. كما تلقّيتُ رسائل شكر وتقدير من فنانين آخرها كان من الأب طوني الخولي». في زمن الفصح الغربيّ، عرض حوّاط تقريراً يعود لعام 2000. أعلن فيه الفنان ربيع الخولي اعتزالَه إبّان دخوله الحياةَ الرّهبانية.



ارشيف تجاوز عمره الثلاثين عاماً



كلّ هذا يُغري حماس حوّاط المدير في أحد أهمّ محالّ الشوكولا في لبنان. مذاق الأرشيف يذوب في قلبه وإحساسه كما تذوب حبّةُ الشوكولا الفاخرة. «ومع الذكريات، اللّذة مضاعَفة». نسأله: هل كان زمناً جميلاً حقاً؟ أم أنّ النوستالجيا تُورثنا الماضي بصكِّ براءة أنقى وأحلى؟ ألم تؤسّسْ تلك الحقبة لتبدّل في مفاهيم الفنّ وصناعة صورة الفنّان؟ يؤكد حوّاط أنّها كانت فترة انتقالية في الأسس والأذواق. «لكنّي سمّيتُه جميلاً لأنه زمني الجميل على الصعيد الفرديّ رغم كل ما عشناه من أزمات». الشاشة لحوّاط واحة. التلفزيون حبّة مورفين. فيتامين لنسيان القلق. يُشاطره الرأي متابعون «يقولون إنّنا اشتقنا لأنفسنا ولذاك الزمن رغم أنّه ليس بعيداً جدّاً. كلّ شيء تغيّر».

مرّت أكثر من ثلاثين سنة على ذاك الطفل. كبُر وكبُرت حياتُه. حلُم بشهرة وببريقٍ. طاف حوله. لكنّه لم يتوغّل فيه. يُمسك بذاكرته وذاكرة أجيال. يسمع صدى ضحكةٍ. خفاها الزمن بموتٍ أو بإعادة تشكيل الشّكل وضبط الإحساس على وزن ممنوع من الصّدق. صادَقَ حوّاط الشّاشة. أضفى على ألوانها لونَه الأصدق: لون الحبّ. وها هي تردّ له الزيارة والوفاء.





بحوزته 2500 شريط واكثر من 7500 ساعة تلفزيونية