جوزيف حبيب

كلّ إناء بما فيه ينضح!

"نفايات بيونغ يانغ" متناثرة في أحد شوارع سيول هذا الأسبوع (أ ف ب)

لم يعد النظام الشيوعي الحاكم في بيونغ يانغ يُفاجئ المراقبين، لا بأقواله ولا بأفعاله الخارجة عن اللياقات والمألوف. في النهاية، كلّ إنسان أو مجتمع أو نظام يُعبّر عن قيمه وأخلاقه وثقافته وتطلّعاته وأهدافه بما «يُنتج» من كتابات وفنون ومشاريع وصناعات وحتّى تصرّفات تنبع من «أعماقه» الفكرية والنفسية، لتتجلّى أمام البشرية جمعاء. و»إفرازات» بواطن «جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية» لم تُخيّب آمال متابعيها يوماً لحرص «عقلها المُدبّر» على «إبهارهم» بمدى انحطاط ما يصدر عن نظامها المُفلس منذ عهد مؤسّسها و»رئيسها الأبدي» الراحل كيم إل سونغ، مروراً بابنه الراحل كيم جونغ إل، وصولاً إلى الحفيد كيم جونغ أون.

توفى مسؤول الدعاية السابق للنظام كيم كي نام في الثامن من الحالي، وهو كان يُعدّ مهندس «عبادة الشخصية» في عهود سلالة كيم الحاكمة، إلّا أنّ «شعلة البروباغندا» التي حملها لفترة طويلة من «مسيرته الشيوعية» الحافلة لم تنطفئ، فقد سلّم «الأمانة» لشقيقة الزعيم كيم جونغ أون، كيم يو جونغ، بعد تقاعده عام 2018. والجيل الشاب في النظام يبدو أحياناً أكثر ابتكاراً من الرعيل الأوّل. صحيح أنّ تجارب النظام النووية والصاروخية وتدريباته العسكرية رسّخت دعائمه، بيد أنّ الأساطير والخرافات المرتبطة بسلالة كيم وحملات «غسل الأدمغة» وضعت «حجر الزاوية» لهويّته.

تفاخر النظام الشيوعي المستبدّ هذا الأسبوع بإرسال مئات البالونات المحمّلة بالنفايات وورق المراحيض وفضلات الحيوانات إلى كوريا الجنوبية، حيث تناثرت فوق منازل وشوارع البلاد بعد انفجار «أجهزة توقيت» مربوطة بها في الجوّ، رغم ما يُشكّله ذلك من تهديد خطر على الصحة العامة. ولم تقف دناءة أركان هذا النظام الذين اعتادوا «قذف» الاستهزاءات اللاذعة والعبارات النابية، عند حافة لجوئهم إلى «الفعل الحقير» فحسب، بل ذهبت كيم يو جونغ إلى حدّ السخرية من «غيلان الديموقراطية الليبرالية» في سيول بسبب غضبهم من بالونات القمامة والقذارات، وتبجّحت باعتبار البالونات «هدايا مقدّمة من القلب» للكوريين الجنوبيين الذين «يبكون من أجل حرّية التعبير»، متعهّدةً بإرسال المزيد منها!

إرسال بيونغ يانغ البالونات التي تُجسّد طريقة تفكيرهم ونهج حكمهم ومقاربتهم للعلاقات الدولية، كان بمثابة «تنفيسة مقيتة» لفشلهم في وضع قمر اصطناعي ثانٍ للتجسّس في المدار في 27 من الحالي وتنفيذ سيول مناورات جوّية رادعة قبل ساعات من انفجار صاروخهم الذي كان يحمل القمر «ماليغيونغ-1-1»، فضلاً عن كونه «ردّاً قبيحاً» على اعتياد نشطاء كوريين جنوبيين على إطلاق مناطيد تحمل منشورات مناوئة لنظام كيم وكتباً ووحدات ذاكرة إلكترونية تتضمّن مقاطع موسيقية مصوّرة وأعمالاً فنية وغيرها من «الإبداعات» الممنوعة في الجارة الشمالية المعزولة عن العالم، إضافةً إلى الطعام والأدوية والمال وكلّ ما يُمكن أن يُساعد إنساناً جائعاً أو مريضاً أو يسعى إلى الحقيقة وبالتالي الحرّية.

أرسل «الشمال» المتخلّف، ممثلاً بالنظام، «برازاً حيوانيّاً» إلى جارته المتقدّمة، انتقاماً على إطلاق «الجنوب»، ممثلاً بـ»المجتمع المدني»، «معونات فكرية» وحصصاً غذائية للمواطنين «الرهائن» في سجن كيم الكبير. يصحّ القول هنا: «كلّ إناء بما فيه ينضح»! لطالما استرعى انتباه المحلّلين كيف أنّ شعباً من «أصل واحد» إنقسم إلى قسمَين، واحد أفرز أعتى الأنظمة الديكتاتورية وأشنعها على الإطلاق، والآخر استطاع الخروج من «أقبية العبودية» نحو «رحاب الحرّية» في مدّة زمنية قصيرة نسبيّاً، ليُنشئ، بمساعدة الولايات المتحدة والغرب، الدولة الأكثر ديموقراطية في شرق آسيا، والتي غدت قوّة اقتصادية وصناعية وعسكرية وثقافية يُضرب لها ألف حساب.

الفرق بين الكوريّتَين واضح كعين الشمس، و»بالونات القمامة» و»مناطيد الحضارة» خير برهان على التباين الجسيم بينهما.