بما أن دونالد ترامب سيكون مرشّح الحزب الجمهوري للرئاسة على الأرجح، وبما أنه يملك فرصة تحقيق الفوز في تشرين الثاني المقبل، بدأت جميع الأنظار تتحوّل مجدداً إلى خططه المرتبطة بالسياسة التجارية التي تُعتبر من أبرز معالم عهده.
ربما كانت سياسات ترامب تخريبية وعقيمة نسبياً خلال ولايته الأولى في السلطة، بما في ذلك الحروب التجارية المكلفة التي خاضها مع الصين وأوروبا وإصراره على تدمير القواعد التجارية العالمية، إلا أنه يتعهد بتدابير كثيرة أخرى إذا فاز بولاية ثانية.
لوّح ترامب بفكرة فرض ضريبة بنسبة 10 في المئة على كلّ الواردات الآتية من مختلف البلدان، بالإضافة إلى ضريبة تصل نسبتها إلى 60 في المئة على كلّ السلع المستوردة من الصين. تكلّم مسؤولون تجاريون سابقون في إدارة ترامب عن تكثيف القيود التي فرضتها إدارة بايدن على صادرات التكنولوجيا إلى الصين، ويبدو أن المقاربة المعتمدة هذه المرة لن تقتصر على إزالة المخاطر التي تطرحها الروابط الاقتصادية مع بكين، بل إنها ستصل إلى حد فك الارتباط بالكامل بين البلدين.
في هذا السياق، يقول ستيفن فون، محام متخصص بالتجارة الدولية في شركة المحاماة «كينغ أند سبولدينغ» في واشنطن، ومسؤول تجاري سابق في إدارة ترامب: «لنعد بالذاكرة إلى ولايته الأولى: هو نفّذ ما لوّح به. أظن أن الناس يجب أن يأخذوا كلامه على محمل الجد حين يتطرق إلى ما ينوي فعله».
لكن لم تتّضح بعد الصلاحيات التي ستسمح للإدارة الأميركية المقبلة بفرض رسوم جمركية شاملة. في عهد ترامب، استعمل البيت الأبيض أحكام الأمن القومي والتجارة غير العادلة في القوانين التجارية المعمول بها. لكن يحمل ترامب والفريق المرشّح لإدارة الملف التجاري في عهده أفكاراً واضحة عن السبب الذي يدفعهم إلى التمسك بسياسات لم تُحقق منافع كبرى عند تطبيقها خلال ولايته الأولى.
قد تؤدي زيادة الرسوم الجمركية على الواردات، ولا سيما من بلدان منافِسة اقتصادياً مثل الصين، إلى تخفيض العجز التجاري الأميركي الهائل وجمع عائدات بقيمة مليارات الدولارات لصالح الخزانة الأميركية. حتى أن فرض الرسوم على الواردات، أو مجرّد التهديد بزيادتها، قد يُجبر شركاء التجارة الرافضين على فتح أسواقهم أمام كميات إضافية من السلع الأميركية. في غضون ذلك، قد يؤدي رفع الرسوم على الصادرات الصينية بشكلٍ خاص إلى الحد من تداعيات اتكال الصين على تصدير سلعها إلى بقية دول العالم بفضل قدرتها الصناعية المفرطة. أخيراً، قد تصبح الشركات الأميركية أكثر تنافسية على الساحة العالمية من خلال زيادة كلفة السلع الأجنبية، بما في ذلك القطع الوسيطة التي يحتاج إليها المصنّعون الأميركيون لتصنيع المنتجات النهائية.
يوضح فون: «لا أظن أن ترامب يؤيد الرسوم الجمركية لأنه يحبذها، بل إنه يتعامل مع المشكلة القائمة عبر طرح الأسئلة التالية: أولاً، كيف يمكن أن ندفع البلدان الأخرى إلى التعامل معنا بالمثل، وكيف يمكن تجنب زيادة العجز التجاري؟ ثانياً، كيف نمنع الصين من تخريب عدد كبير من الأسواق الأساسية؟ مجدداً، قد تكون الرسوم الجمركية مجرّد أداة في هذا المجال».
على عكس الوضع الذي كان قائماً حين وصل ترامب إلى الساحة السياسية للمرة الأولى، لم تعد أفكاره التجارية تشتق من توجهات غير مألوفة بكل بساطة، بل إن تكرار سياسات ترامب التجارية تجازف برفع الأسعار على المستهلكين، وعدم تحسين العجز التجاري، ونشوء بيئة تنافسية أكثر صرامة بالنسبة إلى المصنّعين الأميركيين، وإضعاف القدرة الأميركية على جمع الشركاء والحلفاء للتصدي للصين وروسيا.
في العام 2016، برزت أفكار متطرفة عدة مثل زيادة الضرائب على المستهلكين الأميركيين للحد من جاذبية السلع التي ينتجها الأصدقاء والأعداء على حد سواء، والتخلي عن التحضيرات التي دامت لسنوات لإبرام اتفاقات تجارية بين الولايات المتحدة وبلدان في أوروبا وآسيا، فضلاً عن إلغاء بنود اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية وإعادة التفاوض في شأنها. لكن بما أن ترامب فرض الرسوم الجمركية وأطلق الحروب التجارية خلال ولايته الرئاسية، أصبحت هذه التدابير جزءاً من السياسة الأميركية، أقلّه في عهد الرئيس جو بايدن وفي أوساط الحزب الجمهوري المعاصر طبعاً.
تقول ويندي كوتلر، نائبة رئيس معهد سياسات المجتمع الآسيوي، إن المسائل التي بدت غير واردة حين وصل ترامب إلى السلطة تبدو مقبولة اليوم. هي تنتقد تدابير كثيرة، لا سيما الرسوم الجمركية التي زادها ترامب على حلفاء «الناتو» وتفكيك منظمة التجارة العالمية بطريقة منهجية. حافظت إدارة بايدن على جزء كبير من الرسوم التي فرضها ترامب في عهده وعززت المنافسة التجارية مع الصين، لا سيما في قطاع التكنولوجيا.
تتمتع كوتلر بخبرة اكتسبتها على مر ثلاثة عقود من عملها كمسؤولة في قطاع التجارة الأميركي. برأيها، قد لا تبدو هذه المسائل متطرفة بعد مرور سبع سنوات على تطبيقها، لكن لا يعني ذلك أنها شائعة أو أصبحت جزءاً من المعايير المعتمدة.
تتعلق أول مشكلة واضحة سبّبتها زيادة الرسوم على الواردات بتحوّل التضخم إلى الجانب السلبي الوحيد في الاقتصاد الأميركي المزدهر في آخر ثلاث سنوات. قد يبدو رفع أسعار السلع المستوردة من بلدان كثيرة بنسبة تفوق العشرة في المئة خطوة غير نافعة في المعركة المستمرة ضد التضخم. تكشف بعض الدراسات أن فكرة ترامب بفرض رسوم شاملة بنسبة 10 في المئة قد تكلّف كل أسرة أميركية حوالى 1500 دولار سنوياً. (يعترف ترامب شخصياً بأنه مقتنع بأن الدولة المُصدِّرة هي التي تدفع رسوم الاستيراد بطريقة ما).
لكن لا يشعر مؤيدو زيادة الرسوم بالقلق. يقول فون: «لم تؤثر تلك الرسوم على التضخم في آخر مرة فُرِضت فيها. ما الذي يجعلها تُحدِث فرقاً الآن؟».
في غضون ذلك، لم تنجح الرسوم الجمركية في تقليص العجز التجاري الأميركي المتزايد، علماً أنه يشير في أبسط أشكاله إلى توازن السلع التي تُصدّرها الولايات المتحدة من دون احتساب ما تستورده. كان العجز التجاري السنوي يبلغ حوالى 735 مليار دولار حين استلم ترامب الرئاسة. وعندما ترك منصبه، بعد فرض مجموعة من الرسوم الجمركية وخوض حروب تجارية بهدف تقليص ذلك العجز، وصلت قيمته إلى 901 مليار دولار. وفي عهد بايدن الذي تمسّك بجزء كبير من سياسات ترامب التجارية، تضخّم ذلك العجز وبلغ عتبة التريليون دولار.
يقول سايمون ليستر، محام متخصص في التجارة الدولية: «فُرِضت الرسوم في عهد ترامب وبايدن، لكنها لم تُخفّض العجز التجاري. يجب أن يعرف كل من ينشغل بتخفيض العجز أن زيادة الرسوم الجمركية لن تُحقق هذا الهدف».
رغم فرض مجموعة كبيرة من الرسوم على السلع المصنوعة في الصين، لم يتراجع العجز التجاري على الأرجح لأن جزءاً كبيراً من تلك الشركات انتقل إلى دول أخرى تتراجع فيها الرسوم على الصادرات. انخفض العجز التجاري الأميركي مع الصين إلى 67 مليار دولار تقريباً منذ العام 2016، لكن زاد العجز التجاري الأميركي مع المكسيك وفيتنام بمعدل 161 مليار دولار في الوقت نفسه. لم يتوقف تدفق تلك الواردات إلى الولايات المتحدة، لكنها كانت تأتي من دول أخرى ذات أجور منخفضة وغير خاضعة لرسوم صارمة بقدر الصين.
كذلك، لم تشكّل الرسوم الجمركية أداة لفتح الأسواق أمام سلع أميركية إضافية، أقلّه في عهد ترامب. أصبحت صادرات السلع الأميركية أقل مستوى في نهاية ولايته مقارنةً ببداية عهده. (زادت صادرات السلع الأميركية بنسبة 40 في المئة تقريباً في السنوات الثلاث اللاحقة، بما في ذلك خلال السنة الثانية من أزمة «كورونا»).
لكن تابعت الرسوم الجمركية طرح المشكلات على المصنّعين الأميركيين. سمحت الرسوم التي فرضتها إدارة ترامب على الفولاذ والألمنيوم مثلاً، بكبح هذه الصادرات، لكنها أدت في الوقت نفسه إلى زيادة أسعار المعادن المحلية مقارنةً ببقية دول العالم. فُرِضت الرسوم الخاصة بالصين على السلع الوسيطة التي تستعملها الشركات الأميركية لتصنيع سلع أخرى، ولا يزال جزء كبير منها ساري المفعول حتى الآن، ما أدى إلى ارتفاع التكاليف وإضعاف المنافسة. من المتوقع أن يزداد الوضع سوءاً مع زيادة الرسوم الجمركية.
يظن الخبراء أن أكبر تحديات السياسة التجارية العدائية تتعلق بالصعوبة التي تواجهها واشنطن في جمع حلفاء لها في أوروبا وآسيا للمشاركة في احتواء وكبح السلوكيات القسرية من جانب الصين وروسيا. إنه وضع سيّئ بما يكفي بالنسبة إلى أوروبا، حيث تزامنت الاضطرابات التجارية مع انتقادات ترامب لحلف «الناتو» وتجاهله للعدوان الروسي. لكن قد يزداد الوضع سوءاً في آسيا.
إنسحب ترامب خلال عهده الرئاسي من اتفاق تجاري آسيوي مُخطط له، مع أنه كان يهدف إلى كبح الثقل الصيني الاقتصادي والجيوسياسي في آسيا. اليوم، قد تنضم الصين بحد ذاتها إلى تلك الكتلة، حتى لو بقيت الولايات المتحدة خارج إطارها. في غضون ذلك، تتابع بكين قيادة شراكتها التجارية المستقلة في المنطقة، أو ما يُعرَف باسم «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، بهدف توثيق روابطها الاقتصادية والجيوسياسية مع البلدان الآسيوية.
تضيف كوتلر: «إذا زادت الرسوم الجمركية، حتى على الحلفاء، من الأصعب التعاون معهم لكسب دعمهم عند السعي إلى معالجة التحديات التي تطرحها الصين جماعياً».
قد تُمهّد هذه العوامل لاندلاع حرب تجارية شاملة مع الصين، لا سيما في ظل الاضطرابات الجيوسياسية التي بلغت مستويات عالية أصلاً بين واشنطن وبكين بسبب ملف تايوان وميزان القوى في آسيا.
في النهاية، تقول كوتلر: «فيما نحاول اليوم تجديد الاستقرار، لا سيما الجزء التجاري من العلاقة الثنائية، وهو جانب شائك لكن غير عدائي بقدر ما كان عليه سابقاً، قد يخرج الوضع عن السيطرة في أي لحظة».