في 27 أيلول 2022، استيقظت سولفيغ أرتسمان المتقاعدة في جزيرة غوتلاند السويدية على خبر مريع. بدأ خطّا أنابيب «نورد ستريم 1» و»نورد ستريم 2»، اللذان يهدفان إلى جلب الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا، يسرّبان الغاز في ثلاثة أماكن فجأةً. وبما أن الخطّين كانا مليئين بالغاز، بدأت كميات كبيرة من غاز الميثان (نوع من غازات الدفيئة التي تُعتبر ضارة أكثر من ثاني أكسيد الكربون) تنتشر في البحر والغلاف الجوي. بعد مرور بضع ساعات، أعلنت السلطات السويدية عن رصد تسرّب رابع. بعد فترة قصيرة، أعلنت السويد، والدنمارك، والمفوضية الأوروبية، والحكومة الأميركية، أن حوادث التسرّب كانت تنجم عن أعمال تخريبية. بغض النظر عن هوية المذنب، كان ذلك التخريب يشير إلى نهاية مأسوية لهذين الخطَّين اللذين ظهرا في ذروة عصر العولمة لمدّ ألمانيا ودول أوروبية أخرى بغاز طبيعي من روسيا.
لم تكن أرتسمان مجرّد مواطِنة عادية تسمع ذلك الخبر المريع، بل كانت واحدة من أشخاصٍ قلائل اعترضوا في السويد على بناء خط «نورد ستريم 1». حصل ذلك في منتصف العام 2007، وكانت أرتسمان حينها تُمثّل «حزب التجمّع المعتدل» اليميني الوسطي في مجلس بلدية غوتلاند. في تلك الفترة، قاد المعتدلون أيضاً الائتلاف الحكومي اليميني الوسطي في السويد، وهو فريق يدعم التجارة بقوة ويتألف من وزراء يؤيدون العولمة في كلّ الظروف.
بدا وكأن معظم الناس، بغض النظر عن توجّههم الإيديولوجي، يصدّقون منافع توثيق الروابط التجارية بين البلدان، وبدأت التجارة تزدهر في كلّ أنحاء العالم خلال تلك الحقبة.
في 8 تشرين الثاني 2011، تم افتتاح خط أنابيب «نورد ستريم 1». في النهاية، تجاوز هذا المشروع الطموح الميزانية الأصلية، لكن أصبح خط الأنابيب جاهزاً للاستعمال في تلك الفترة، ما يعني أنه يستطيع تسليم 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، وهي كمية كافية لتزويد 26 مليون منزل بالإمدادات. اعتُبِر خط الأنابيب مشروعاً مبهراً من الناحية الهندسية.
لكن بعد مرور أكثر من عشر سنوات، في 24 شباط 2022، عرض التلفزيون الوطني الروسي خطاباً لفلاديمير بوتين، فبدأ الرئيس الروسي كلامه بالعبارة التالية: «اليوم، بدأتُ أفكر مجدداً بضرورة تقييم الأحداث المأسوية الحاصلة في إقليم دونباس وأهمية ضمان الأمن الروسي». ثم تابع قائلاً: «أنا أتكلم عن المسائل التي تشغلنا وتقلقنا، أي تلك التهديدات الكبرى التي يواجهها بلدنا على مر السنوات المتلاحقة وتنجم عن تصرفات سياسيين غير مسؤولين في الغرب. أنا أتكلم عن توسّع حلف «الناتو» نحو الشرق وإقدامه على نقل شبكته العسكرية إلى مسافة أقرب من الحدود الروسية». حين كانت القنوات التلفزيونية تنقل ذلك الخطاب، أطلقت القوات الروسية هجوماً منسّقاً ضد أوكرانيا.
سمع أكسيل فوغت، عمدة مدينة لوبمين الألمانية، ذلك الخبر في أولى ساعات النهار، فقال: «لا أصدّق ما حصل. إنها صدمة مشابهة لهجوم 11 أيلول». سرعان ما أدرك الجميع أن إمدادات الغاز لن تتابع التدفق عبر خط «نورد ستريم 2». كان هذا الشعور قد بدأ يتسلل إلى البعض منذ فترة. مع ذلك، ظن المسؤولون أن عقودهم مع مشروع «نورد ستريم» ستستمر وأن الغاز الذي يتدفق أصلاً عبر «نورد ستريم 1» سيتابع مساره.
ردّت الحكومات الغربية فوراً عبر إضافة العقوبات التي تفرضها أصلاً على روسيا. في فرنسا، تكلّم وزير المال برونو لو مير، عبر إحدى المحطات الإذاعية عن «شنّ حرب اقتصادية ومالية شاملة ضد روسيا» ولوّح بانهيار الاقتصاد الروسي. كان الغرب يستطيع أن يفرض هذه العقوبات الاقتصادية الهائلة لأن روسيا أمضت العقود الثلاثة السابقة وهي تعمل على دمج اقتصادها مع الغرب. بعد مرور بضعة أيام، مرّر مجلس الدوما الروسي قانوناً يسمح للحكومة بمصادرة الطائرات التي يملكها الغرب وتستأجرها الشركات الروسية.
تكبّد أصحاب الطائرات وشركات التأمين المرتبطة بهم خسائر جماعية بقيمة 10 مليارات دولار. هكذا انتصرت روسيا: بالكاد جفّ الحبر عن الأوراق التشريعية حين استولت الحكومة الروسية على مئات الطائرات المملوكة للغرب. في غضون ذلك، أعلنت سلسلة «ماكدونالدز»، وشركة «بي بي»، وشركات غربية عملاقة أخرى تنشط في روسيا منذ التسعينات، مغادرتها للبلد.
في ذلك الصيف أيضاً، توقف عمل «نورد ستريم 1» لأسباب مرتبطة بالصيانة في مناسبة واحدة ثم مرّتين. وفي 5 أيلول، أعلنت الشركة عن استمرار إغلاق خط الأنابيب إلى أجل غير مُسمّى.
بعد مرور ثلاثة أسابيع، استيقظ فوغت على كارثة أخرى. تسبّب أحد بانفجار خطَّي أنابيب «نورد ستريم 1» و»نورد ستريم 2» المليئَين بالغاز، ولم تعد حرب أوكرانيا فجأةً مجرّد مأساة في بلدٍ بعيد بل وصل جزء منها إلى منطقته الصغيرة من العالم.
جاءت تلك الانفجارات لتجعل أجزاءً استثنائية من البنية التحتية غير قابلة للاستعمال، بعدما نشأت منذ أكثر من عشرين سنة كي تربط بين خصوم سابقين وتوفّر الطاقة لاقتصادٍ يزداد ارتباطاً بمفهوم العولمة. يقول فوغت: «لن أقول إنني توقعتُ ما حصل. حين كنتُ أخلد للنوم خلال تلك الأسابيع، لم أفترض حصول ذلك، لكني اعتبرتُ هذا الاحتمال وارداً. في صباح ذلك اليوم، وصل عدد كبير من المسؤولين وتواصلت معي الشرطة الألمانية. عقدنا أيضاً اجتماعاً شاركت فيه جميع الكيانات المحيطة بالميناء لاتخاذ قرار حول الخطوات المناسبة في المرحلة اللاحقة. فكرتُ فوراً بأمن تلك المنشآت كلها. ألغيتُ كلّ اجتماعاتي وأجرينا نقاشات أمنية طوال اليوم». هكذا انتهى ذلك النهار الطويل. بعد يومٍ مليء بالاجتماعات الطارئة، عاد فوغت إلى منزله وانهار بذلك دور مدينة لوبمين غير المتوقع في الاقتصاد المبني على العولمة وانتهى زمن نجاتها المفاجئة من الظروف المالية السيئة.
تشتق كلّ القرارات من أشخاصٍ مسؤولين عن صناعة القرار وآخرين يتأثرون بتلك القرارات. لكن لم يصدر أي قرار يستطيع التأثير على هذا الكمّ من الأشخاص في آخر ثلاثة عقود ونصف بقدر ما أثّرت العولمة بحد ذاتها على حياة الناس. لم تكن العولمة مجرّد قرار بسيط، بل كانت عبارة عن جهود بذلها جميع أنواع السياسيين ورجال الأعمال لإنشاء عالم مترابط يستطيع، بحسب رأيهم، أن يحسّن حياة معظم الناس. الأفضل من ذلك هو احتمال أن يُخفّض ذلك العالم المترابط مخاطر اندلاع الحروب.
بدت العولمة موجة لا يمكن كبحها، حتى بالنسبة إلى منتقديها. عملياً، لم يبتكر القادة السياسيون ورجال الأعمال ظاهرة العولمة على شكل جهود موحّدة أو أداة لإغاظة المواطنين العاديين، بل إنهم شاركوا بكل بساطة في هذه الموجة التي عُرِفت لاحقاً باسم العولمة لأسباب مختلفة جداً. لم يقرر هؤلاء السير في هذا الاتجاه لأنهم أرادوا أن يفرضوا فكرة العولمة على العالم، بل بسبب ظهور فرص مفاجئة بدت جاذبة لدرجة أن يكون عدم اقتناصها قراراً غبياً.
في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، بدأت البلدان الغربية التي كانت تعمل على تحسين اقتصادات السوق بتصدير نموذجها إلى البلدان المنغلقة التي بدأت تنفتح على الآخرين في كلّ أنحاء العالم. كانت تلك الحقبة حماسية بمعنى الكلمة، إذ تلاحقت خلالها فرص غير محدودة لصالح الشركات، وطُرِحت منتجات أقل كلفة لصالح المستهلكين، وتحسّنت العلاقات بين الدول. حتى أن صانعي السياسة الغربية كانوا يأملون في أن تُرسّخ الأسواق الحرّة المستوحاة من النموذج الغربي ديموقراطية ليبرالية على الطريقة الغربية في عدد كبير من البلدان التي بدأت تتبنى نظام الرأسمالية. أثّرت هذه الثورة الكبرى في حجم التجارة والطموحات الواعدة على كافة جوانب المجتمع، فتمكّن المواطنون العاديون من شراء منتجات استهلاكية بأسعار أقل بكثير، وأصبح العمّال جزءاً من سلاسل الإمدادات العالمية أو اضطروا لإيجاد وظائف جديدة حين قرر أرباب عملهم الانتقال إلى الخارج. نتيجةً لذلك، نشأ جيل كامل وهو لا يعرف إلا هذا العالم المبني على فكرة العولمة.
جرت الألعاب الأولمبية الممتعة في بكين في العام 2008، تحت شعار «عالم واحد، حلم واحد»، وشكّلت رمزاً مثالياً لتلك الحالة المنسّقة من الشؤون العالمية. بدت البلدان متناغمة جداً واقتصرت أي نوايا سيئة على المصرفيين الذين سببوا الأزمة المالية التي كانت تجتاح العالم حينها.
اليوم، تتابع روسيا خوض حربها في أوكرانيا، وتستمر المناوشات بين الولايات المتحدة والصين بسبب طبيعة التعايش بينهما، وتنتشر مخاوف متزايدة من اندلاع حرب تشمل الصين. في الوقت نفسه، أصبحت كتلتان جديدتان قيد التطوير. وعلى عكس الكتلتَين الرئيسيتَين خلال الحرب الباردة، لا ترتكز الكتلتان الجديدتان على الولاء العسكري بقدر ما ترتبطان بالولاء التجاري. في غضون ذلك، بدأت أعداد كبيرة من الشركات الغربية تحاول الانسحاب من الجبهة الجديدة، ولو جزئياً. في بداية هذا العقد، كان صانعو القرار يأملون في أن تتعافى العولمة بعد تعثرها خلال أزمة «كورونا»، لكن زاد الوضع سوءاً في تلك المرحلة.
سرعان ما تحوّل خطّا أنابيب «نورد ستريم 1» و»نورد ستريم 2» إلى رمزٍ للآمال الزائفة في شأن العولمة ككل. عندما سُئِلت أرتسمان عن اعتبار تلك الانفجارات إثباتاً على صحة وجهة نظرها، أجابت قائلة: «لا، ومع ذلك فكرتُ بأن مشروع «نورد ستريم» كان جزءاً من خطة الطاقة التي وضعتها روسيا منذ البداية. لكني لم أنجح في إقناع أحد بهذا الرأي».