"الروح اللبنانيّة والعفوية الطاغية في أعمالي هي التي يبحث عنها المشاهد وهي أكثر ما يجذبه إليها، وهذا ما أثبته الواقع وشركات الإحصاءات"، هكذا ينطلق الكاتب التلفزيوني والمسرحي أنطوان غندور حين تسأله عن الهوية اللبنانية في الدراما المحليّة. ويُضيف مفاخراً أنّ "ليبيا رفضت مسلسل "الصقيع" (1986) رغم بيعه إلى جميع الدول العربيّة"، بحجّة أنّ "هويّته لبنانيّة بامتياز، وأنّ الثلوج لا تتساقط إلاّ في لبنان".
ثمّة غصّة كبيرة في قلب كاتبنا اللبناني القدير الذي يترحّم على الماضي وعلى الدراما اللبنانية، عبّر عنها في حديثه إلى "نداء الوطن".
"كنّا في "تلفزيون لبنان" ننتج 7 مسلسلات أسبوعيّاً ونسوّقها إلى كل العالم العربي. لكنّ الظروف اختلفت، كنّا الأوّلين واليوم الكل سبقنا وبأشواط كتابةً وتمثيلاً وإخراجاً وإنتاجاً"، يقول الكاتب أنطوان غندور، الذي لم يكفّ منذ سنوات، وفي كلّ مناسبة، عن نعي المسلسل اللبناني: "أعطوني اسم فضائيّة عربيّة واحدة تعرض الدراما اللبنانيّة".
يرفض المقارنة بين مسلسلات ذاك العهد الذهبي ومسلسلات اليوم فهي مثلما يقول، لا تحمل من الهويّة اللبنانيّة إلاّ اسماء كاتبها ومخرجها وأبطالها. ويأسف لأننا لا نحافظ على تراثنا في الدراما اللبنانية، كما يشكو كثيراً من مشكلة الإنتاج الدرامي التي صارت تخضع لسلطة مافيات تتحكّم بالنصوص والكاستينغ وتفرض التقشف في الإنتاج ما يؤثّر على النَّص والقصّة والأحداث.
لا ينكر غندور أنّ ثمة أعمالاً أفضل من غيرها، لكنّ معظمها يعاني الجفاف، "ما فيا روح، لا تدخل إلى القلب، الحوار يفتقد إلى السلاسة والعفوية، 85 بالمئة منها مقتبس عن مسلسلات أجنبية لا تعكس ثقافتنا وعاداتنا اللبنانية، المسلسل اللبناني ضايع".
البداية "بلا حقد"
ابن "عين عَلَق" المتنيّة، الثمانيني، ما كان عمره تعدّى السادسة عشرة بعد، حين كتب "تحت شجرة الزيزفون"، ليفاجأ باتصال من مدير برامج "تلفزيون لبنان" رشاد البيبي طالباً تحويل القصة إلى سيناريو تلفزيوني بعنوان "بلا حقد"، ويروي: "تلبّكت... ما كنت شايف أصلاً التلفزيون، وقالولي راح يعلّموني السيناريو"، وصودف يومذاك وصول المخرج والسيناريست غاري غارابتيان إلى لبنان آتياً من الولايات المتحدة الأميركية، "فعُهدت إليه مهمّة إعطائي بعض مبادئ صناعة السيناريو". وكرّت السبحة، وصار لمشاهدي الشاشة اللبنانية أجمل المواعيد مع مسلسلات أنطوان غندور.
"كانت أيام"
وكان أول الغيث مسلسل "كانت أيام" (1964) عن نشأة الفولكلور اللبناني، الذي انطلق حلقة وراء حلقة وفي كلّ منها قصة أغنية وفولكلور. ومعه، صارت المسلسلات التاريخية لعبة أنطوان غندور المفضّلة: "من وقتها صرت أحبّ كل شيء تاريخي ولو كان يأخد شغلاً كثيراً وتعباً وأبحاثاً ودراسات طويلة وشاقة". وكانت الخبطة الكبيرة مع "دويك يا دويك" الذي "كسّر الدني"، وأشعل "ستّنا بيروت"، ويقول: "هذه الشخصية أصبحت مضرب مثل بسذاجتها وحتى عبارات دويك تحوّلت إلى عناوين كتب وأفلام وثائقية".
ومن منّا لا يذكر "أخوت شاناي"، الذي عرف نجاحاً مدوّياً، ومع ذلك ثمّة ما قارعه نجاحاً، هي قنبلة أنطوان غندور الجديدة "شباب 73" التي تخطّت كلّ التوقعات، محقِّقاً مع ذلك المسلسل نسبة مشاهدة فاقت 70 في المئة من سكان لبنان، وفق إحصاءات شركة غالوب الفرنسية، ويخبرنا أنّ "نجاح "شباب 73" وصلت أصداؤه إلى فرنسا فاقتبس التلفزيون الفرنسي فكرته وكتبت إحدى المجلّات الفرنسية أنّ فكرة البرنامج الفرنسي مقتبسة من "تلفزيون لبنان" عن برنامج للكاتب اللبناني أنطوان غندور... "وصارو يقولو عنّي وقتها أخوت سكر من النجاح".
اجتذاب الأدباء والشعراء
ومن خلال برنامج "أديب وقصّة"، اجتذب غندور إلى الشاشة الصغيرة فئة كانت بعيدة عنها، هي فئة الكتّاب والأدباء والشعراء والمثقّفين، "وها هو يوسف حبشي الاشقر يقدّم برنامج "الضيعة بألف خير" وسهيل إدريس يقدّم "الحيّ اللاتيني"، وانا علّمتهما كتابة الحوار والسيناريو".
"بربر آغا" أفرغ الشوارع
وجاءت الثمانينات ليطلّ علينا غندور بتحفته "بربر آغا"، ويذكّرنا كيف كانت شوارع بيروت تخلو من المارة ليلة عرضه. لتكرّ بعده سلسلة طويلة، من "سقوط زهرة البيلسان" الذي حاز جائزة التلفزيون الأولى في الكويت، إلى "بو بليق"، مروراً بـ "الصقيع"، فإلى "صدفة" الذي نال العديد من الجوائز، وصولاً إلى رائعته التاريخية "ليلة القرار" التي استند فيها إلى كمّ هائل من الوثائق المؤرّخة والأبحاث، لسرد الليلة الأصعب في حياة شخصيات تبوّأت سدّة الرئاسة اللبنانية، منذ إعلان "دولة لبنان الكبير" عام 1920 وصولاً إلى عهد الرئيس شارل حلو.
وهكذا رأينا أنطوان غندور "يلملم" في أعماله التاريخ، الحاضر، والمستقبل عبر مئات ومئات الحلقات التي ما زالت عالقة في ذاكرة المشاهدين ويعتبرها كثيرون بحقّ "جوهرة" أرشيف تلفزيون لبنان. روائع باعتقاده لو أعيد تصويرها مجدّداً لحقّقت نجاحاً كاسحاً.
ويقول: "اشتغلت وتعبت كتير بس وصلت لنتيجة"، ليوصلنا إلى أنّ سر نجاحه ما كان يوماً وليد الصدفة... ونسأله: أما تعب أنطوان غندور من الكتابة ونبش التاريخ؟ يجيب: "لا لم أتعب. لا أزال أنبش وأكتب إمّا لبنانياً او أنقل ما هو لبنانيّ إلى خارج لبنان".
إطلالة بعد غياب كان ذلك في نيسان الماضي، حين أطلّ الكاتب أنطوان غندور بعد غياب، مكرَّماً من وزير الإعلام زياد المكاري تقديراً "لعطاءاته في صنع تاريخ لبنان". على هامش التكريم، شعار كبير وسؤال في البال، ما الذي فعله ذاك الكاتب لصناعة تاريخ لبنان؟ حتماً الكثير الكثير.. عملاق "تلفزيون لبنان" الذي أمتع ليالينا وسهراتنا بعبق لبنانيّاتنا وفولكلورنا، رأيناه كما قدّم لنا وطناً، يقدّم لنا فنّاً ممهوراً حنيناً وإبداعاً لبنانيّاً صِرفاً، من "كانت أيام" إلى صرخة "دويك" مصبِّحاً "ستنا بيروت"، إلى ذاك الأخوت الذي "خَوَت اللبنانيين"، إلى جنون حكايات "شباب 73"، إلى "بربر آغا" الذي أفرغ شوارعنا ليلاً... كاتب جعل التاريخ لعبته، ينبشه، يعجنه، يتلفزه، متوِّجاً نفسه بحق رمزاً وصانعاً لأمجاد زمن جميل، نتحسّر عليه لكأنّه زمان ضاع في الزمن، يوم كانت أعمال أنطوان غندور نجمة سهراتنا، تسحرنا.. تسمّرنا أمام تلك الشاشة الصغيرة، ونسأل، أين هو اليوم؟ الكاتب الكبير لكأنه اختار الابتعاد عن "رحلة عمر" طويلة مشحونة بأعمال نقشت تاريخاً تلفزيونيّاً حافلاً، ممهورة بأعمال عبثاً تُنسى وأبطال عبثاً يموتون. |