نوال نصر

الدولة تتخلى عنها من جديد

صليب رميش كبير... هل يتكرر التاريخ؟

هي رميش المعلقة على الصليب، التي تتكئ عند حدودها الشمالية البلدتان المسيحيتان دبل وعين إبل، وتحدها عند الشمال الغربي عيتا الشعب، وعند جنوبها وجنوبها الشرقي فلسطين... في الطبيعة: رائعة رميش. في نفوس ناسها : راقية، بطلة، ولا تلين. أما في الجغرافيا، فحالها حال. رميش اليوم وحيدة، متروكة، من دولة لا تعرف - في المحن - إلا الهروب. فهل تواريخ ما قبل العام ألفين في 2024؟ تعلمنا أن مَن يتعلّم الهروب مرّة تُصبح لديه عادة. رميش وأخواتها لم تهرب. لن تهرب. الدولة تفعل. فهل سيأتي يوم قريب نسمع من تركها - ومن اعتادوا الإستقواء على كلّ الآخرين - يوجهون صوبها وصوب كل من يأبى ترك الأرض والعرض نعت: العمالة؟ من رميش يتكرر مجدداً الجواب: فشروا.



رئيس بلدية رميش ميلاد العميل "قبضاي" وهو المؤمن "أن المصيبة ليست في ظلم الظالمين بل في صمت المظلومين" لذلك صرخ ومعه الرمشاويون الأنقياء وأهل دبل وعين إبل- الذين لجأوا إليها: رح نبقى هون. أعاد هؤلاء معنى لهذه المقولة. وتصدوا جميعاً لبرقية "متسرعة" من الدولة اللبنانية - الغائبة أصلاً - بإخلاء آخر معلم شرعي في البلدة: مخفر رميش. تراجعت الدولة على مضض والمخفر باقٍ. ماذا عن رميش وجارتيها دبل وعين إبل؟



في حمى العذراء


القرى المسيحية عند الشريط الحدودي تتحلق حول بعضها على شكل مثلث. أهل ثلاثتها لم ينشدوا يوماً إلا: كلنا للوطن للعلا للعلم. يقيم في دبل- أو بالأصح كان يقيم فيها - أربعة آلاف نسمة. اليوم لا يزيد عدد هؤلاء عن 120 نفراً بعدما استشهد من استشهد منها بصواريخ الحزب الأصفر. خطأ! هذا ما حصل. مدرسة الراهبات في البلدة فرغت. ووحدها صور القديسين تحرس البلدة. أهل دبل نزحوا بغالبيتهم الى بيروت. والطفلة النازحة التي نزحت من البلدة وبكت متمنية العودة الى البيت الدبلاوي هُدّ منزلها، الواقع عند طرف البلدة، البارحة. لن تعود الفتاة قريباً الى عرينها.


في عين إبل الحالة ليست أفضل. أهل البلدة، الذين يناهز عددهم 1500 نسمة، نزح الشباب فيها الى رميش ونزحت عائلاتهم الى بيروت. وهكذا أصبحت رميش صخرة المثلث الآن.



في عين إبل


والأعلام اللبنانية التي تظلل بيوتها تدل على عمق البلدة التاريخي. إنها أكبر بلدة مارونية في لبنان، تضمُ- أو كانت تضمّ- نحو 13 ألف نسمة موارنة صرف. صحيح أن عائلات كاثوليكية قدمت إليها لكن أفرادها يقدسون ويتزوجون ويتعمدون ويدفنون في كنيستي الموارنة مار جرجس والتجلي. ألا يكفي هذا لتنتفض الكنيسة وتسأل: ماذا عن مصير أهل كنيستي؟



هؤلاء جميعا سبق وتُركوا. تركتهم دولتهم ذات يوم فقاوموا ببقائهم وصمودهم. وها هو التاريخ يتكرر معهم. الناس تعبون؟ نعم. قلقون؟ أكيد. ويتهامسون: "طالما أهملت الدولة شعبها في الشريط الحدودي. تركتنا نعيش الفقر والجوع والتعتير. أقفلوا علينا الطرق وكم اشتهينا حبة الزيتون. هربت الدولة ذات يوم ويوم انسحبت إسرائيل بات على أهل الحدود الإتصال- إذا احتاجوا الى شيء وكم الأشياء التي يحتاجون إليها كثيرة- بالحج عزيز في حزب الله أو الحج درويش في حركة أمل. الدولة تأخرت كثيراً في الوصول.



الصمود



يتكل هؤلاء على زراعة التبغ. يقطفون الغلة ويغسلون أوراق التبغ بدموعهم، ويعدون النفس بأن الدولة "راجعة". عادت متعثرة. 24 عاماً وهم يصارعون للبقاء ومواجهة نعت قديم بالعمالة. وها هم يحتفظون قبل الصكوك الخضر بمستندات تؤكد ان الدولة التي تركتهم- كما اليوم- طلبت منهم المكوث فوق والإهتمام بالبلدات الحدودية. يحتفظ هؤلاء حتى الآن بمذكرة صدرت في 14 آب عام 1976 رقمها 3860 موجهة من العماد قائد الجيش آنذاك حنا سعيد، يأمر فيها بعض العناصر العسكرية من أبناء رميش (كما أبناء عين إبل ودبل وعلما الشعب والقوزح) الإهتمام بالقرية بعدما انحلّت بعض القطع العسكرية التي كانت متمركزة في الجنوب. وهو أوكل المهمة الأمنية الى الرقيب الأول المغوار سمير الحاج على أن يعاونه الرقيب الأول حنا الحاج. أحدهما هاجر الى بلغاريا والثاني نزح مع المغادرين عام 2000 بتهمة العمالة الى إسرائيل. هي التهمة الأسهل التي طالما استخدمها البعض.



تبغ رميش


يا لهول ما عاشوه هؤلاء. فهل يتكرر التاريخ اليوم مع تنازل الدولة المستمرّ عن ناسها؟

فلنقصد اليوم- في اتصالاتنا- رميش. أحد أولاد البلدة من آل الحاج كان طفلاً عام 2000. لم ينس القهر الذي عاشوه في تلك المرحلة. لم ينس إبن الحاج صراخ الأهل والأقارب والجيران- الـ SURVIVOR: ما بدنا إلا الدولة. لكن "ليس كل ما يشتهيه المرء في دولة منهكة مستسلمة مثل دولتنا يدركه. فهل يُكتب على أولاد الشريط أن يعيشوا ما عاشه أهلهم؟ ما حصل اليوم أن برقية وصلت في التاسع من تشرين الأول هذا العام الى القطع العسكرية في البلدة تطلب من عناصر الجيش اللبناني، وهم من اللواء الخامس، المغادرة. يا الله. ماذا يعني ذلك؟ الى مَن يتركون مصير أهل البلدة الصامدين؟ جنّ جنون الأهالي. وما زاد الطين بلة، وصول برقية مماثلة الى مخفر رميش تطلب من عناصره أيضاً المغادرة. دولتنا دائما تتخذ الحلّ الأسهل إليها.


صرخ الأهالي مجدداً: بدنا الدولة... بدنا الدولة... وبلغتهم أصداء أن الدولة تراجعت عن البرقية الثانية لكن التراجع يستمرّ شفهياً لا من خلال برقية رسمية. هنا، ثمة انعكاس أكبر بكثير من حدود مضمون البرقية. فرميش خزان جيش لبنان. شباب رميش ينتمون بغالبيتهم الى المؤسسة، وهذا يعني أنهم مضطرون هم أيضا الى المغادرة. هذا معناه بكلام آخر تفريغ رميش من شبابها. فهل تعي الدولة معنى ذلك؟ وماذا لو أصرّ هؤلاء على البقاء؟ هل سيُنعتون بالعمالة بعد حين؟ الى ذلك، هناك أكثر من 200 شاب من رميش والضواحي التحقوا بمخفر البلدة. ماذا لو قيل لهم لاحقاً: طلبنا منكم المغادرة ولم تلبوا؟ هل سيُتركون لحالهم؟



رميش اليوم واقعة بين أكثر من شاقوفين: إسرائيل وحزب الله والدولة اللبنانية. ثمة صواريخ من جهة الحزب تسقط عليها وثمة خطر يُحدق بها من عدوة ملتصقة بحدودها وثمة دولة متخاذلة. ثمة مخاطر مثلثة الأبعاد تحوم حول رميش وجارتيها.


القوات الإسرائيلية لم تدخل الى رميش. هي عبرت من عيتا الشعب، مرّت عند الأطراف، وتابعت نحو حانين. إسرائيل تتوغل. الإحتلال قد يكون عاد. فهل يفترض بالأهالي المصممين على عدم ترك البيت والرزق والذكريات والنزوح الى مراكز إيواء الإستسلام؟ هل يفترض بهم أن يصرخوا: آخ؟ يا الله على التاريخ الذي قد لا يُعيد نفسه لكنه قد يتشابه كثيراً!



ماذا بعد؟

سكان المثلث المسيحي عند الحدود الجنوبية حفظوا أمثولة مضمونها ان إمرأة تركت ولدها "داشراً" وهو طفل وبعد 25 عاماً عادت إليه وبدأت تضربه على يده وتنعته بالأزعر وتركت الغريب والقريب يؤنبه ويقاصصه غافلة أنها هي من تركته لحاله. هذا حصل بين عاميّ 1976 و2000. الآن بعد نحو 25 عاماً هل سيتكرر المشهد؟