لن يكون وقع اللائحة الرمادية التي انضم اليها لبنان قاسياً، لأسباب عدة أهمها ان العواقب التي تخشاها الدول في العادة من هذه اللائحة، يعاني منها لبنان منذ آذار 2020، وهو اليوم في وضع "انا الغريق وما خوفي من البلل".
عاد لبنان رسمياً الى اللائحة الرمادية بعد مرور 22 سنة على خروجه منها اثر خطة نفذتها الحكومة آنذاك برئاسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ومع هذه العودة المدوية، وبعد فترات سماح طويلة منحتها مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) للحكومة اللبنانية لكي تتخذ الإجراءات المطلوبة لتجنّب الدخول مجدداً الى اللون الرمادي، سقط لبنان مرة جديدة في التجربة، وعاد الى اللائحة الرمادية، والتي تعني ان البلد لا يلتزم المعايير العالمية لضمان عدم وجود عمليات تبييض أموال لتمويل الإرهاب، او تجارة المخدرات، او عمليات الاجرام المنظّم...
هذه الشُبهة ماذا تعني عملياً، وكيف تؤثر على الدولة التي تُدرج على هذه اللائحة، وما هي انعكاساتها على الاقتصاد، وعلى حياة الناس اليومية؟
من خلال الدراسات والإحصاءات التي أنجزتها مؤسسات مالية دولية، تبيّن ان كل دولة دخلت الى اللائحة الرمادية، تراجع فيها حجم الاستثمارات الأجنبية بنسبة قد تصل الى 10%. هذا التراجع يؤثر في الاقتصاد، ويعرقل نسب النمو، وبالتالي، يؤثر على مجمل الحركة الاقتصادية. كما ان العمليات المصرفية مع الخارج تصبح معقدة اكثر، بحيث قد تستغرق وقتاً اطول للإنجاز، وكلفة اكبر.
أما في لبنان، والذي يعاني اقتصاده من انهيار مالي منذ آذار 2020، موعد اعلان حكومة حسان دياب التوقّف عن دفع الديون الخارجية (يوروبوندز)، فان مفاعيل اللائحة الرمادية ستكون خفيفة، على اعتبار ان التداعيات الناتجة عن ذلك، قائمة منذ العام 2020. بالنسبة الى الاستثمارات الأجنبية، تكاد تكون غير موجودة. وبالنسبة الى المعاملات المصرفية مع الخارج، فإنها تخضع لتعقيدات ولكلفة إضافية فرضتها ظروف خفض تصنيف لبنان الائتماني الى مستوى التعثّر الانتقائي، وهو تصنيف يجعل التعاطي المالي الخارجي مع لبنان صعباً للغاية.
في المقابل، لا خوف من وقف المصارف المراسلة العمل مع المصارف اللبنانية بسبب اللائحة الرمادية. وفي الأساس، لو كان لدى المصارف العالمية هذا التوجّه، لكانت أوقفت العمل مع القطاع المالي اللبناني منذ 2020، بسبب خفض تصنيفه الائتماني. ومن المؤكد ان عمل المصارف المراسلة مع المصارف اللبنانية ومع مصرف لبنان سوف يستمر، بعد الإدراج، وهذا الامر أكدته إدارات هذه المصارف لحاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري.
ولاحقاً، حصلت المصارف اللبنانية على تأكيدات مماثلة من تلك المصارف من خلال المراسلات التي جرت معها.
كما علمت "نداء الوطن" ان وفداً مصرفياً لبنانياً لا يزال موجوداً الآن في واشنطن حيث يشارك في اجتماعات وفعاليات الخريف التي ينظمها البنك الدولي وصندوق النقد. وعقد الوفد اجتماعات جانبية مع مسؤولي المصارف العالمية المراسلة، الموجودين في العاصمة الأميركية. وتلقى تأكيدات إضافية حول استمرار التعاون مع المصارف اللبنانية رغم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية.
كما أفادت المعلومات الواردة من باريس ان محاولات أخيرة جرت لتأجيل إدراج لبنان على اللائحة الرمادية انطلاقاً من أن الحرب قائمة، وان هذه الظروف ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل.
وكان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي أسرّ الى زواره قبيل سفره الى باريس، انه تدخل لمنع إدراج لبنان على اللائحة السوداء، بعدما تبلّغ من اصدقائه الفرنسيين ان اللوبي الصهيوني يعمل على الدفع باتجاه إدراج لبنان على اللائحة السوداء فوراً، من دون المرور باللائحة الرمادية، على اعتبار انه سبق وأُعطي أكثر من فرصة لتصحيح مساره وإنجاز الإجراءات المطلوبة لكنه لم يفعل.
المطلوب للخروج من الرمادي
في عودة الى الأسباب التي أدّت الى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، يتبين ان هناك سببين رئيسيين يحتاجان الى معالجة:
أولا- الاقتصاد النقدي (cash economy). اذ ان الانهيار المالي وخروج القطاع المصرفي عن عمله الطبيعي، شجّع على اعتماد الاقتصاد النقدي. كما أن الاقتصاد الموازي او ما يُعرف بالاقتصاد الأسود نما بحيث أصبح يشكّل حوالى 50% من حجم الاقتصاد الوطني. وهنا يبرز دور "حزب الله" في تغذية الاقتصاد الأسود والاقتصاد النقدي، لجهة تعاطيه في السوق بالاقتصاد النقدي حصراً، وعدم مرور معاملاته المالية بالشبكة المالية الشرعية، او بشبكة "سويفت" العالمية.
ثانيا- استقلالية القضاء اللبناني، بحيث ان مجموعة العمل المالي الدولية اعتبرت ان السلطة السياسية تسيطر على السلطة القضائية، وتمنعها من البت وإصدار الأحكام في مئات ملفات التبييض التي وصلت الى القضاء عبر هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. وبالتالي، اعتبرت المجموعة ان لبنان يكافح صورياً تبييض الأموال، اذ ان المصارف تقوم بدورها وتحيل الملفات المشبوهة الى مصرف لبنان الذي يقوم بدوره، وبعد التحقيق، احالتها الى القضاء حيث تنام في الادراج قريرة العين.
في النتيجة، ما تؤكده المؤسسات الدولية ومنها صندوق النقد، صاحب التجربة الطويلة مع الحكومات اللبنانية، ان الخطر لا يكمن في اللائحة الرمادية، بل في الانتقال لاحقاً الى اللائحة السوداء، لأنه من خلال التجارب تبيّن ان السلطات اللبنانية لا تقوم بدورها، ولا تتحرّك لاتخاذ اية إجراءات لتحاشي الأسوأ، وهذا الامر واضح ويمكن استشفافه من خلال تصرفات الحكومة حيال الانهيار المالي المستمر منذ أواخر العام 2019، وحتى اليوم لم يتم الاتفاق على خطة للخروج من هذا الانهيار.
أما اللائحة السوداء، واذا انتقل اليها لبنان، فهي تعني العزلة المالية التامة، وتوقف المصارف المراسلة عن التعاون مع البلد، بحيث نصبح عاجزين عن فتح اعتماد للاستيراد، وهذا يعني ان حاجات البلد من الغذاء والمحروقات وسواها من المواد الأساسية، لن تتم سوى من خلال البنك الدولي، الذي ينبغي اللجوء اليه لفتح مثل هذه الاعتمادات. وفي حينه سيعاني اللبنانيون فعلاً من أضرار اللائحة السوداء.