طوني فرنسيس

الدولة المدنية أرنبٌ يعود الى جحْرِه

5 أيلول 2020

02 : 00

ليست المرّة الأولى تستعِر فيها الدعوات الى قيام الدولة المدنية. قبل الحروب اللبنانية، كانت تلك الدعوات تكتسب قيمةً ووزناً ومعنىً، وبعد تلك الحروب صارت أرنباً يُسْتَلّ من أكمام السياسيين، الذين انتقلوا من دون تغييرٍ يُذْكَر من موقع قادة الميليشيا، الى موقع قادة الدولة.

كانت الدعوة الى الإصلاح في النظام، بما في ذلك تطوير قوانين الإنتخاب والأحزاب، عنواناً مطلبياً لحركة العديد من الأحزاب والقوى الديموقراطية واليسارية، عشية الحروب المندلعة قبل 45 سنة، الّا أنّ القوى الطائفية التقليدية لم تتجاوب، واعتبرت أنّ أي تغييرٍ سيكون مقدّمة لفقدانها امتيازاتها التي يوفّرها النظام الطائفي.

وأدّت الحروب الداخلية المتلاحقة، والتدخّلات الخارجية التي غذّتها وواكبتها وقادتها، الى تعميق الشرخ الطائفي والمذهبي بين الطوائف وبين أبناء الدين الواحد، ونظراً لعدم الإلتزام بروحية وثيقة الوفاق الوطني المُقَرّة في الطائف، جاء الدستور المُنبثق منها انتقائياً ما سمح بجعله صورة تذكارية على جدار سلطة الميليشيات التي انتقلت من خنادق القتال الى فنادق الحكم.

لم يعد الإصلاح على طريق الدولة المدنية وارداً، لأنّ أدوات هذا الإصلاح لم تعد متوفّرة. وبينما كان النقاش يدور قبل عقود حول قانون للأحزاب، بديل للقانون العثماني الصادر في 1909، يقلّص المضمون الديني للأحزاب السياسية، صار معظم تلك الأحزاب مُمثّلاً لطائفة أو ينطق باسمها طوعاً وقسراً. وفيما كان النقاش يدور حول شفافية الأحزاب، أعضاءً وبرنامجاً وتمويلاً، صار بعضها يفخر بسرّية عمله وبسلاحه وبتمويله الخارجي من "البابوج الى الطربوش"، وبات ينتظر موسم الإنتخابات للتفاخر بكمّية ملايين الدعم التي تلقّاها من هذه الدولة أو تلك.

غرق هؤلاء في جوَُرهم المذهبية، وأغرقوا البلد في آتون تقاسمهم وفسادهم، وتحوّل الإصلاح المأمول إنطلاقاً من وثيقة الطائف، لعبة كرةٍ طائرة، أتقنها ورعاها الوصيّ السوري، وأورثها لمنتجاته.

على مدى سنوات، كانت دعوات الإنسحاب السوري (المسيحية عموماً) تُواجه بالدعوة الى إلغاء الطائفية السياسية ( من فريق مسلم عموماً)، وعندها يردّ الفريق الأول باشتراط العلمنة فيرفض الفريق الثاني، وتضيع قضية الإنسحاب السوري في فوضى القنابل الدخانية.

اليوم نشهد أمراً مُماثلاً. فبعد انتفاضة 17 تشرين اللاطائفية، وتصاعد الدعوات الى حياد لبنان، ومنع إلحاقه بالمحاور الإقليمية والدولية، هبّت رياح الدعوة الى الدولة المدنية التي تفترض في أول شروط قيامها منع التداخل بين الدين والسياسة، وجعل المواطن ركيزة لها لا زعيم الطائفة أو قائد الفيلق المذهبي. وسريعاً كشف الناس رياء هذه الدعوات بسبب معرفتهم بأصحابها، وأخذوا يتساءلون عن الهدف من إطلاقها الآن على لسان قيادات، تفخر بعمق طائفيتها وتقود جمهوراً لا يمكن السيطرة عليه الا بالبخِّ المذهبي والطائفي اليومي.

والهدف ببساطة، منع أي تغييرات إصلاحية في البنية السياسية، وإبقاء نظام المحاصصة والفساد على ما هو عليه. وهؤلاء ربّما يراهنون على أنّ سيرهم في دعم خطة ماكرون سيُتيح لهم تأبيد هيمنتهم، أمّا الدولة المدنية فليست سوى أرنب سيعود بسرعة الى جحره.