قاسم يوسف

لا مكان لسنّة لبنان خارج "لبنان أولاً"

سنّة لبنان حسموا هويتهم الوطنية

لبنان أولاً

استكمل السنّة في لبنان تأكيد المؤكد بعد عقدَين كاملين من التجارب والكبوات والمنزلقات القاتلة، اختبروا فيهما كل أنواع القهر والمظلوميات والضغوط القصوى، من الداخل ومن الخارج، لكنهم لم ينجرفوا، ولم يسلكوا درب المغامرات. وظلت أكثريتهم الكاثرة في صلب المعادلة الوطنية التي حسمت نهائية الكيان اللبناني وأولويته، باعتباره حصنهم الحصين، بعد أن كان في أدبياتهم جزءاً لا يتجزّأ من بحر سنّي هادر يمتد من سواحل الهند إلى شواطئ المغرب.



آخر تلك الاستحقاقات كانت في غزة، وما أدراك ما غزة وما فلسطين بالنسبة للوجدان السنّي العام. لكن الحدود القصوى التي ذهب إليها العقل الجماعي تمثل في التضامن المطلق. حالهم في ذلك حال سكان لندن أو باريس الذين تعاطفوا على نحو غير مسبوق بوجه المذابح البشعة. الأمور لم تتجاوز هذا السقف، حتى حين انجرفت "الجماعة الإسلامية" في لعبة صناعة الأوهام عبر استخدامها من قبل "حزب الله" في النشاط المسلّح، قابلها السنّة بما يشبه الرفض، أو في أحسن الأحوال باللامبالاة، وكأنهم غير معنيين على الإطلاق باستعادة التجارب المجنونة التي اختبروها وعرفوها، وما نالهم منها إلا الغرق والوحل والصقيع.



قبل غزة، كان جرحهم المفتوح في سوريا. تعاطفوا مع ثورتها الهائلة كما لم يتعاطفوا مع قضية في تاريخهم، لكنهم لم ينجرفوا. وظلت حركتهم السياسية والاجتماعية تحت سقف الممكن والمتاح، قبل أن يعودوا ويلفظوا كل أولئك الذين سلكوا درب السلاح أو حرّضوا عليه. ويكفي أخذ العلم أن أستراليا مثلاً، والتي تبعد عن سوريا عشرات آلاف الكيلومترات، حج شبابها إلى سوريا بالآلاف، بينما لم يتجاوز عدد الشبان السنّة الذين شاركوا في القتال بضع مئات، رغم كل العوامل المساعدة، من المظلومية التاريخية، إلى النظام المجرم، إلى الجغرافيا المتلاصقة والمفتوحة، إلى أكبر نسبة مصاهرة في العالم، إلى جرح رفيق الحريري الذي يأبى أن يندمل.



هذه اختبارات قاسية ورهيبة، وهي تمس العصب المركزي للسنّة ولنخاع شوكهم، في دينهم وعقيدتهم وشرائعهم، كما في قوميتهم وعروبتهم وانسانيتهم، وهم حين يخرجون من استحقاقات مماثلة دون أن يتورطوا أو ينقلوا الحريق إلى بيوتهم، فإنما يقولون بصوتهم الجماعي وبعقلهم الباطني، إن لا رغبة لديهم على الإطلاق بتحويل بلادهم إلى جثة على شاكلة الجثث المتناثرة في جوارهم.



هذه ثوابت تاريخية لا يُمكن الابتعاد عنها في مقاربة أي مستقبل ممكن لهذه الشريحة الكبرى. وهي بقدر حكمتها في مقاربة الحساسية المفرطة للحرب الإسرائيلية على غزة وعلى لبنان، عبّرت بطريقة شديدة القسوة والوضوح عن موقفها العميق من قتل قاتل رفيق الحريري الذي رفعه "حزب الله" إلى مرتبة القداسة، وهو موقف ينسحب على مجمل الحالة الشاذة التي كوّنها "الحزب" ضمن المجتمع اللبناني. وهذا الرأي لم تُغيّره لا عمليات المشاغلة ولا حرب الإسناد، ولم تؤثر فيه قوافل الذين سقطوا وقد ذُيلت صورهم بشعارات عاطفية وبراقة من قماشة: على طريق القدس.



السنّة في لبنان، بأكثريتهم الكاثرة، هم أهل دولة، وأبناء الانتظام العام، يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية وهادئة، في دولة سيدة وحرة ومستقلة ومزدهرة وعادلة ومحايدة ومتفاهمة مع محيطها، يريدون دولة حقيقية يأخذون فيها حقوقهم ويقدمون واجباتهم كمواطنين طبيعيين، ويرفضون أن تتحول بلادهم إلى ساحة لحروب الآخرين تحت أي عنوان من العناوين، قد يتعاطفون مع هذا أو ذاك، وقد يعبّرون عن تعاطفهم كما تُعبّر كل الشعوب في العالم، لكنهم يرفضون الانجراف إلى الهاوية، ويرفضون أخذ بلادهم إلى الجحيم.



استناداً إلى هذه الخلاصة، وإلى تاريخ طويل من التجارب، لا مكان لسنّة لبنان خارج الإطار الجامع للحالة اللبنانية السليمة، والتي تقوم على كلمتين لا ثالث لهما: لبنان أولاً، وعلى مرتكزات عميقة تحسم هويتهم الوطنية، عبر تحويل هذا اللبنان من قميص ضيق كانوا يتذمرون من ارتدائه، إلى وطن نهائي لا فكاك منه ولا خروج عنه ولا تفريط فيه، حالهم في ذلك حال أولئك الذين سبقوهم في رفع هذه البلاد إلى قدس أقداسهم.