باريس - يشهد "مركز بومبيدو" الثقافي في باريس معرضاً ضخماً بعنوان "سوريالية" بمناسبة مرور مئة عام على انطلاق الحركة، وتحديداً عام 1924، مع صدور "بيان السوريالية" الذي أطلقه الشاعر الفرنسي أندريه بروتون آنذاك، ليكون نقطة البداية لتيّار فنّي وأدبي ضخم وسيعمّ لاحقاً معظم مدن الثقافة في العالم.
يُقام المعرض على مساحة ضخمة من المركز (2200 متر مربّع) ويضمّ حوالى 500 لوحة ومنحوتة، إلى جانب الصور الفوتوغرافيّة والأفلام والرسوم والوثائق الأدبيّة النادرة، أهمّها نصّ "بيان السوريالية" الأصليّ الموجود عادةً في "مكتبة باريس الوطنيّة"، وقدّمته المكتبة موقّتاً للمعرض، وكلّ ذلك في سينوغرافيا تقوم على الوهم البصري. وقد صُمِّم المكان على شكل متاهة دائريّة في وسطها المخطوط الأصلي.
سحر في عرض اللوحات
ويشهد المعرض على أحدث وسائل العرض السمعيّة والبصريّة، فتستقبلك على باب المدخل صور "نجوم السوريالية" المضاءة في عتمة المكان، من أندريه بروتون، إلى سلفادور دالي، فالشاعر بول أيلويار... وثمّة سحر يُمارس على الزائر من وسائل تقنيّة حديثة في عرض اللوحات ضمن طقوس وجماليات لا تُحصى. وقد قُسّم المعرض وفق عناوين كبيرة اندرجت تحتها الأعمال ومن أبرزها: "دموع إيروس"، "غابات"، "ليل"، "كوزموس"، "وحوش السياسة"، "طريق الحلم"، "مملكة الأمهات"، "الحجر الفلسفي" وغيرها...
حيّز لنساء السورياليّة
أمّا أبرز اللوحات - الكنوز المعروضة، فهي موجودة غالباً في متاحف سان فرنسيسكو ومدريد ونيويورك وستوكهولم وسواها لكبار السورياليين، من سلفادور دالي، إلى بيكاسو، وجورجيو دي شيريكو، وماكس إرنست، وصولاً إلى رينيه ماغريت، وخوان ميرو، وليونورا كارينغتون، وأندريه ماسّون، وفرنسيس بيكابيا، وغيرهم. ويعطي المعرض حيّزاً واسعاً للمشاركة النسائيّة في الحركة السوريالية عبر أعمال لدورا مار، وإيتيل كولكوهن، ودوروثيا تايننغ، وليونورا كارينغتون.
فنانون كسروا الأنماط
ويُعتبر هذا الاحتفال بالسورياليّة الحدث الفني الأبرز لموسم باريس الخريفي الثقافي. وهو قد أعاد إلى الأذهان فلسفة تلك الحركة التي يعيشها الزائر من ضمن تصميم المعرض على شكل متاهات توحي بالضياع إلى حدّ ما، وسط الخطوط والألوان والرسومات بعنوانها العريض، وهو حريّة التعبير لفنانين كسروا كل الأنماط والمدارس وانطلقوا في مغامرة تأثرت أولاً بالتيار السابق لها، وهو "الدادائيّة"، لتحطّ المغامرة معهم على أرض جديدة فيها الهواجس والأحلام والكوابيس التي تحتاج إلى وسائل تعبير مختلفة وعبثيّة وصادمة: من عالم دو شيريكو الميتافيزيكي، إلى هواجس رينيه ماغريت، إلى ساعات دالي الليّنة والمتموّجة، في مشاهدات تجعلنا نفهم أكثر هواجس رسّامين وشعراء أطلقوا العنان لخيالهم في رسومات غرائبيّة، أو في كتابات أوتوماتيكيّة. وإذا نتاج الفن السوريالي يأسر بمضامينه، فهو لأنه ظهر في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وكان للحركة مواقفها السياسية من الحروب والاستعمار، ومواقفها الإنسانية في قضايا اجتماعية وتحرريّة، فتحدّت القواعد الثابتة والمتفق عليها. وكان أيضاً الأثر لعلم النفس والجدليات من حوله، وكان ذلك واضحاً أيضاً في مضامين الأعمال السوريالية التي كانت مهمّتها الأساسية كشف الغامض في النفس البشريّة وفي اللاوعي والعقل الباطن.
بإختصار جماليّات المعرض ومفاجآته لا تُحصى. وثمّة لوحات معروضة قد تسرق لمسة منها بيدك لتتأكد من حقيقة وجودها أمامك، مثل "أغنية الحب" لدو شيريكو، أو "الحلم"، أو "إصرار الذاكرة" لدالي، أو "المتاهة" لأندريه ماسّون، أو "العشّاق" لفرانسيس بيكابيا...
لوحات بعشرات ملايين الدولارات منذ منتصف القرن الماضي أثارت اللوحات السوريالية فضوليّة المتتبّعين لها، فهي تُباع بعشرات الملايين من الدولارات في حين أنها لا تُوقظ لدى المشاهد سوى الاستغراب أو الصدمة، إذ غالباً ليس لها أي معنى منطقي وعقلاني سوى أنها تحرّر الفنان لدى إنجازها من كل القيود، وتتحدّى المنطق كفعل تلقائي نفسي بعيد عن رقابة العقل وما تمليه عليه الاخلاقيات أو المفاهيم السائدة. لكن هذه اللوحات أخذت مكانتها اليوم وتكريمها في هذا المعرض الهائل خير دليل على ذلك. |
*يستمرّ المعرض إلى 13 كانون الثاني 2025، ومن المتوقّع أن يُنقل لاحقاً إلى هامبورغ، وفيلادلفيا، ومدريد. وهو الأخير في موسم "مركز بومبيدو" الذي سيقفل أبوابه لسنوات من أجل الترميم.
رينيه مارغريت
فرانسيس بيكابيا
دو شيريكو