مايز عبيد

"قوارب الموت": أطفالنا جثث في البحر

19 أيلول 2020

02 : 00

حي نزلة الزحول في القبة حيث خرج بعض الشبان حاملين قاربهم

حزنٌ كبير يخيّم على مدينة طرابلس ومناطق الشمال، بعد اكتشاف مصير عدد من العائلات والشبّان، الذين خرجوا من مناطق طرابلسية عدة، قاصدين قبرص ومنها إلى أوروبا من عرض البحر. هي حكاية قوارب الموت التي أرادها أصحابها نجاة لهم ولعائلاتهم من جحيم العيش في لبنان، وإذا بها تشكّل النهاية المأسوية التي لم يكونوا ينتظرونها.

فمن لم يسمع بقصة الطفلين سفيان ومحمد، اللذين قضيا غرقاً قبل أيام في أحد هذه القوارب ولم يحزن لها؟ هي حكاية قوارب الموت التي لا تنتهي فصولها. تقلّ لبنانيين لم يعد يربطهم بوطنهم شيء. جلّ ما يحلمون به هو مغادرة أرض ضاقت عليهم إلى أرض الله الواسعة، حتى لو كانت هذه الرحلة ستكلّفهم الحياة برمّتها، فليست "فارقة". قصدنا حي "نزلة الزحول" في منطقة القبة الطرابلسية والذي خرج منه أشخاص عدة في أحد القوارب تلك، وبالتحديد القارب الذي تعرّض ركابه لعملية احتيال من قِبل مجموعة من الأشخاص التي تركتهم بعرض البحر ليواجهوا الموت.

قصدت "نداء الوطن" منزل أهل عبيدة إسماعيل والدة الطفل سفيان المحمد. لم نستطع التحدث إليها لأنها كانت بحالة انهيار تام. هذا هو حالها منذ عودتها إلى طرابلس، بعد أن عادت إليها الذاكرة وتذكّرت ما حصل معها وكيف توفي طفلها أمام عينيها. فبعد أن خلت جعبتهم من ماء وأكل وما شاكل، وبعد مرور أيام في عرض البحر، لم يعد لدى هؤلاء إلا القفز في البحر بعد أن مات طفلان أمام أعينهم من الجوع والعطش.


الطفل سفيان المحمد



السبب الدائم... الفقر

تحدّثنا إلى جد الطفل سفيان، السيد عدنان إسماعيل وهو والد عبيدة. قال لـ"نداء الوطن" والأسى يعتري نفسه: "إن وضع صهري المادي صعب، فهو توقف عن العمل منذ فترة ولم يعد باستطاعته تأمين متطلبات طفله، فضلاً عن أنه ينتظر مولوداً جديداً". أضاف: "جاء صهري إليّ وقال أريد أن أسافر إلى قبرص ومن هناك إلى دولة أخرى. فنصحته بالتريث، وألا يتخذ خيار دخول بلاد اخرى "بالتهريب"، لأن هذا الخيار غير مضمون، لكنه أخبرني أن كل شيء مؤمن. ورغم ذلك لم أقتنع، فأخبرت مخابرات الجيش في طرابلس بأن هناك قوارب ستقلع من البحر باتجاه قبرص وعلى متنها عائلات ومنهم صهري وزوجته وطفله وطلبت منعهم من ذلك كي لا يصيب عائلتي أي مكروه".

ويتابع: "من الواضح أن هناك عصابة من تجار الموت، والمعلومات تشير إلى أنهم من عكار وطرابلس والمنية، وإبن عمة صهري أحد المتعاملين مع هؤلاء". ويقول: "لم نعلم بذهابهم إلا في اليوم نفسه الذي انطلقوا فيه، ولم تصل إلينا أخبارهم إلا بعد أربعة أيام عندما كانت بدأت تتوافد إلينا الاخبار بأنهم وصلوا. هناك من قال إنهم صاروا في المخيمات بقبرص بانتظار إيجاد حل لهم، لكننا لم نستطع أن نتواصل مع أحد منهم لنتأكد، إلى أن عاد أشخاص كانوا معهم في قوارب أخرى تمت إعادتهم من قبل السلطات القبرصية، عندها ساورتنا الشكوك بمصير اقربائي، فقمنا بتحركات أنا وبعض الأهالي في طرابلس، فعلمنا بمصيرهم وأنهم صاروا في عهدة قوات "اليونيفيل" التي سلّمتهم إلى السلطات اللبنانية". ويتابع: "وضع إبنتي في أصعب الأحوال وصهري أيضاً. أما والد الطفل الثاني الذي ظهر مع سفيان في الفيديو عبر وسائل التواصل فيبدو أنه موقوف".



الجدّ يسأل عن حفيده سفيان



ماذا حصل معهم؟

المعلومات التي تمّ تجميعها عن هذه القصة تفيد أنّ "أكثر من قارب انطلق في الوقت نفسه من بلدة المنية باتجاه قبرص، وليس كما هو الحال مع قوارب الميناء التي انطلقت قبل مدة من جزيرة البلان وعاد من كان عليها أدراجهم إلى لبنان. ربما ما أسعف أبناء الميناء أنهم يعرفون السباحة فأنقذوا أنفسهم، لكنّ من انطلقوا في القوارب الأخيرة (جزيرة البلان) فلم تكن لدى معظمهم دراية بالسباحة، إلا أحد الشبان الذي قفز من القارب وسبح مسافة طويلة في البحر حتى وصل إلى قوات "اليونيفيل"، فأخبرهم بأن هناك رفاقاً له في قارب وعددهم 33 بينهم سوريون وبنغلادشيون، وهم بين حيّ وميت، وان المهربين تخلوا عنهم وسحبوا منهم ما كان معهم من مأكل ومشرب بحجة أن الوصول إلى قبرص قد اقترب. تركهم المهرّبون في عرض البحر وبدل أن يكونوا في قبرص، إذ بهم يصلون بعد ايام إلى الحدود مع فلسطين، بقيوا عدة ايام من دون أي مأكل او مشرب وواجهوا الموت، بعضهم عاد وبعضهم خطفه البحر".

وشيّعت طرابلس أمس الشاب محمد الحصني الذي وُجدت جثته في السعديات. الفقراء من أهل طرابلس يعتبرون أنفسهم أمواتاً بكل الحالات. ولولا هذا اليأس لما ركبوا البحر... هم ركبوا البحر ويعلمون أنه قد يؤدي إلى حتفهم، لكن يبقى احتمال عبورهم نحو بلد أفضل قائماً. فمن يركب البحر لا يخشى من الغرق.


MISS 3