عيسى مخلوف

إستمرار إحتراق رئة العالم

19 أيلول 2020

02 : 00

لم يستطع بحر التيه الذي يجسّده وباء كورونا اليوم أن يخفي دخان الحرائق المشتعلة هنا وهناك على هذه الأرض التي يندر فيها، أكثر فأكثر، ما يستحقّ الحياة. منذ قرابة العام، أي منذ الصيف الماضي، انتشرت في كلّ مكان صور الحرائق المشتعلة في غابات الأمازون التي يقع الجزء الأكبر منها في البرازيل، وها هي النيران تعود إليها من جديد وبزخم لم تعرفه من قبل، ممّا يجعل هذه الغابات ومعها النظام البيئي العالمي بأكمله أكثر هشاشة وأعمق خطورة.

منذ نحو عام حتى اليوم، تمّ استئصال أكثر من تسعة آلاف كلم مربّع، وهذا ما يتجاوز ما حصل العام الفائت بنسبة 34 في المئة. ويأتي الاتفاق التجاري، الذي لم يُصدَّق عليه بعد، بين أوروبا والسوق المشتركة الجنوبيّة التي تضمّ عدداً من دول أميركا الجنوبية منها الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا ويقضي باستثمار مساحات شاسعة من الغابات سنوياً، ليزيد من حدّة التساؤلات والمخاطر. أمّا الهدف من تدمير الغابات فهو تخصيص مساحات واسعة للزراعة وإنشاء المزيد من المراعي لتربية الأبقار. ومع استمرار الحرائق، تزداد، بحسب العلماء والمتخصّصين بالبيئة، نسبة ثاني أُوكسيد الكربون التي تتضاعف أيضاً مع تحرُّر الكربون المحتجز منذ عقود من الزمن داخل الأشجار المشتعلة. وهذا ما يعني أنّ الغابات التي يتمّ الانقضاض عليها الآن هي أماكن تخزين كمّيات الكربون الكبيرة التي تحمي الأرض من الاحتباس الحراري وما يسفر عنه من جفاف وتصحُّر وشحّ المياه، ومن فتح العالم على مزيد من الأوبئة.

إنّ تدمير الغابات هو تدمير النظام البيئي برمّته، وهو نظام بات مهدّداً بالزوال حتّى قبل أن يكتشف العلم أسراره كلّها. تدمير الغابات هو أيضاً القضاء على من تبقّى من السكّان الأصليين المقيمين داخلها وبقاؤهم أحياء يرتبط بمواردها. هناك سبعون في المئة من أصناف حيوانيّة انقرضت خلال الخمسين سنة الماضية من بينها نسبة كبيرة من الأسماك والطيور. إنها نتيجة الاستغلال المفرط للموارد الطبيعيّة، وفق أنساق سياسيّة واقتصاديّة لا تأخذ في الاعتبار الإنسان والحيوان والنبات بل الربح، وتعتبر أنّ البقاء على قيد الحياة يستوجب تدمير العالم !

الضرر الذي شهدته الأرض خلال نصف القرن الأخير لم يلحق بها طوال ملايين السنين. أضف إلى ذلك أنّ هذا الاستغلال المنظَّم استفادت منه فئة على حساب فئة أخرى، وعمَّق الهوّة بين المُتخمين والجائعين، وترك العالم نَهباً للنزاعات والحروب التي لا تنتهي.

لقد اجتمعت الدول الصناعية السبع الكبرى خلال الشهر الماضي في مدينة بياريتز الفرنسية واقترحت تقديم عشرين مليون دولار لمساعدة البرازيل في مكافحة الحرائق، غير أنّ الرئيس بولسونارو رفض هذا الاقتراح. ومن الطبيعي أن يرفضه طالما أنه هو الذي يُزكي الخطّة التدميريّة للأمازون. أما المدافعون عن البيئة فيجدون أنفسهم عاجزين عن القيام بأيّ فعل حاسم في هذا الموضع.

يظنّ الرئيس البرازيلي وغيره من رؤساء الدول أنّ الغابات ملك لهم، وكذلك الحقول والتلال والجبال، والمحيطات والبحار والأنهار، يفعلون بها ما يشاؤون. لكن يفوت هؤلاء أنها، كالغيوم والنجوم والمجرّات، ليست ملكاً للبشر. وتهديدها هو تهديد لوجود الإنسان نفسه. أكثر من ذلك، يغيب عن بال المستأثرين بالثروات الطبيعيّة أن اجتثاث جزء منها بهذه الطريقة الوحشيّة التي توظَّف من أجلها جميع الإمكانات العلميّة والتكنولوجيّة هو اجتثاث لجزء من روحها ومن الحياة التي تنبض فيها. فعناصر الكون متكاملة في ما بينها، مترابطة ويدعم بعضها بعضاً. حتّى الفراشات التي تعشق رائحة الأزهار وتمتصّ رحيقها، ولا تدوم حياتها أكثر من ساعات وأيّام معدودة، لها دور في التوازن الذي تستوي عليه الأرض.

أمام التحدّيات الجديدة التي ظهرت في العقود الأخيرة، لم يعد بالإمكان تسيير العالم وفقاً لما سار عليه حتّى الآن. السحابة السوداء التي نتجت عن انفجار محطّة تشيرنوبيل النوويّة العام 1986 لم تطلب إذناً لتكتسح فضاءات عدد كبير من الدول ولتبذر سمومها فوقها، ولا جائحة كورونا التي انطلقت من الصين واجتاحت العالم أجمع. هكذا، تصبح الحدود التي تفصل بين دولة وأخرى حدوداً وهميّة واهية لا تنفع معها الجيوش والأسلحة في مواجهة مخاطر لا تمسّ شعباً دون آخر، ولا قبيلة دون سواها، بل تعني الإنسانيّة جمعاء.