بمناسبة الذكرى المئويّة لولادة المغنّي الفرنسي الكبير شارل أزنافور يُعرض في العالم، كما في لبنان، فيلم "السيّد أزنافور" (Monsieur Aznavour) كتابة وإخراج مهدي إيدير، وفابيان مارسو مغنّي "الراب" المعروف بـ "غران كور مالاد"، وهو من بطولة الممثل الجزائري طاهر رحيم في دَور أزنافور، إلى جانب باستيان بوييون، وماري جولي بوب في دَور إديت بياف، وعدد كبير من الممثلين. الفيلم ضخم ومن نوع السيرة الذاتيّة لموسيقيّ أو "Music Biopic"، من إنتاج صهر أزنافور جان ـ رشيد كلوش. والمعروف أنّ المغنّي الراحل كان قد بحث مع ولديْه "ميشا" و"نيكولا" قبل رحيله احتمال تصوير فيلم عن حياته فكان أن حقّق الولدان حلم الوالد.
صحيح أنّ الفيلم يبهر المشاهد بتقنياته المتطوّرة وبمؤثّراته الصوتيّة الهائلة إلى جانب تقنيات الذكاء الاصطناعي في تفعيل صوت الممثّل على صوت الفنان الراحل، غير أنّ ثمّة مفقوداً في الفيلم، هو أزنافور المغنّي والموسيقيّ المبدع، والشاعر الملهم الذي كتب أجمل أغنيات الحب في القرن العشرين. وقد لا يعثر المشاهد سوى على "السيّد أزنافور" في فصول حياته الرتيبة التي تشبه حياة أيّ فرد. من هنا، يبدو الفيلم أقرب إلى الشريط الوثائقي الذي سجّل كلّ تحركات المطرب من طفولته إلى مرحلة وصوله إلى الشهرة: أسفار وحفلات وعقود عمل، ثم ثروة ومنازل فخمة وتسجيل أغنيات، وخيبات البدايات ونجاحات النهاية.
كلّ جزء حقبة
الفيلم من خمسة أجزاء. كل جزء يتناول حقبة من حياته، ويبدأ بمشهد رائع قد يكون الأجمل في الفيلم حيث شارل الصغير بين والديه اللذين يديران مطعماً صغيراً: عائلة أرمنيّة مهجّرة ترقص على لحن أغنية "الغيتاران"، وهي من لحن غجري روسي قديم يتحدّث عن حياة التهجير والترحال ونسمعها بصوت الوالد بالأرمنيّة أو بالروسيّة والأرمنيّة معاً، ونرى شارل مبهوراً بالأجواء واللّحن الذي سيتناوله بعد سنوات على طريقته وسيبدع فيه بأغنية تُعتبر من أجمل ما قدّمه للأغنية الفرنسية.
غير أنّ الانتقال من جمالية المشهد الأول إلى سياق الفيلم، جعله يقع بعد حين في رتابةٍ وملل تصاعدي: منذ طفولته في الحرب العالمية الثانية، ثم البدايات مع شريكه الأول في الغناء الفرنسي بيار روش في الكاباريات، وصولاً إلى لقائه المغنيّة الكبيرة إديت بياف، وبعدها زواجه الأول والثاني، مروراً بعلاقته الرائعة مع شقيقته الوحيدة.
أين المبدع؟
في كلّ هذا رأينا الشاب، ثم الرجل الناضج في مراحل متعاقبة، لكنّ شارل أزنافور المبدع لم يطلّ علينا ولا من أيّ زاوية. حتى علاقته الشهيرة بإديت بياف لم نفهم منها سوى أنها ساعدته في الوصول إلى حفلات وعقود عمل ناجحة. بينما المعروف أنّ بياف كانت الملهمة الأولى له، وقد كتب لها أجمل الأغنيات وتأثّر بها أشدّ تأثير، فهي تمرّ في الفيلم مروراً غير محبّب على الإطلاق. كذلك كلّ مصادر الإلهام لأزنافور غير واضحة أو غير موجودة في الفيلم: من أمّه إلى أرمينيا وحبّه لوطنه الأم (أغنية "لقد وقعوا" غائبة عن الفيلم)، إلى فرنسا البلد المستضيف الذي كان يعشقه إلى حدّ أنه كان يعجز عن الخيار بين حبّه للبلدين، إلى المرأة في حياته بشكل عام من زوجته الأولى، فالثانية، مروراً بكلّ حبّ كتب له من أعماقه أغنيات خلّدها التاريخ.
كل هذا النقص في الفيلم لا تبرّره المؤثرات الضخمة ولا التقنيات الفضفاضة، التي لم تخدم حتى الممثل طاهر رحيم الذي تقمّص الدَّور بكلّ موهبته، لكنه بقي عند حدود التقليد الذي شغله كلّ الفيلم، فنسي النقاط الأهم وهي توظيف كلّ حياة هذا الفنان الهائل على تعابير وجهه وإحساسه به.
أغنيات ولكن
وإذا اعتبرنا أن أغنية "البوهيميّة" هي الحلقة الأقوى في مسيرة شارل أزنافور أو هي الأغنية ـ القمّة، فقد قدّمها الفيلم بصوت طاهر رحيم المشغول ربّما على الذكاء الاصطناعي، والغريب أنها لم تُقدّم بصوت أزنافور. غير أنّ أغنية الختام "أرسلوني إلى طرف الأرض" كانت بصوته، ففعلت سحرها للنهاية لكنها فضحت ما سبقها الذي وقع في مبالغات التقليد.
قد يقع هذا الكلام ظلماً على الفيلم، لأن الأخير كلّف الكثير من الأموال والجهود. لكن ألم يكن من الأفضل لو تمّت الاستعانة بأحد كتّاب السينما الكبار في فرنسا لتدوين حياة أزنافور على إيقاع نبضات قلبه المرهف وحسّه الإبداعي الهائل، بدلاً من سرد وقائع حياته التي من أسهل الأمور متابعتها على مواقع الإنترنت مثلاً، بأدقّ تفاصيلها؟
صعوبة مفهومة
شاهدنا في الفيلم شارل الصغير، المهاجر الأرمني الفقير الذي انتقل من "أزنافوريان" إلى "أزنافور" تحاشياً للتنمّر والعنصريّة، كما رأينا الشاب العصامي الذي طار من بلد إلى آخر سعياً وراء العمل، والرجل الذي قطف النجاح والشهرة بعد جهود وصعوبات كثيرة. لكن أزنافور ليس رجلاً عادياً، فهو سجّل للتاريخ إبداعاً لا مثيل له في الغناء والتلحين والكتابة والسينما، وأعطى الأغنية الفرنسيّة جوهرة إبداعه.
والمعروف أنّ لأزنافور حوالى 1200 أغنية، وطوال 65 عاماً من الغناء المتواصل باع 180 مليون أسطوانة حول العالم، وسجّل للتاريخ أروع الأغنيات بصوته الجميل والخاص جداً، وبمروره الساحر على خشبات المسرح بأداء لا يتكرّر. وقد يصعب تجسيده في فيلم من دون شك. من هنا يمرّ "السيّد أزنافور" في سياق المحاولة الصعبة، لكنّ المجهود الهائل الذي قام به كلٌّ من مهدي إيدير وفابيان مارسو وطاهر رحيم، كان لينضج ويُثمر لو وُضِع النصّ والسيناريو في الأولويّة بدلاً من إهماله أمام بهرجة المؤثرات البصريّة والسمعيّة التي تبهر العين والأذن، لكنّها لا تُضاهي السحر الذي يتركه عمق الكلمة ونضج الأداء.