شربل صيّاح

"الشخصية اللبنانية"... من القضية الى الرؤية...

لبنان: بلد المنعطفات التاريخية

لبنان ، هذا الوطن الغني بثقافته والعريق بتاريخه وتاريخ مجتمعه الطوائفي الركب، يقف اليوم كما كلّ مرّة امام مفترق طرق مصيري. التّحدي ليس فقط في كسر الحلقة المقفلة من الأزمات المتكررة التّي تكيّفنا معها عبر اعتماد سياسة معالجة النّتائج لا الأسباب، بل في كيفية تجاوز أثقال الماضي وتفادي اللّجوء إلى حلول سطحية مشابهة للطروحات السابقة التي ادت الى ما نحن عليه اليوم.


أسمح لنفسي أن أقول ثمّ أن أجزم، أننا بالفعل في منعطف نادر حيث نمتلك الأريحية الكافية لكي نسأل الأسئلة اللّبنانية الوجوديّة المجتمعيّة الصّحيحة لتكون إجاباتنا منطلقة من الحضور الطوائفي الملائم والايجابي.

مع التّذكير بأنّ هذا النّوع من المنعطفات يفوتنا قطارها في كلّ مرّة لأنّنا "نسكر" سكرة المنتصر ونؤجل "الأسئلة الاساسية المطلوبة لما بعد انتهاء العرس، أي بعد نفاذ الخمر".....



فرصة نادرة للتساؤلات الجوهرية


إن السّؤال الجوهريّ الذي يواجه اللّبنانيين اليوم هو:

كيف يمكن كسر هذه الدائرة المقفلة التي تجعل كل حلّ ظاهري مجرد امتداد لمنطق الأزمات، بدلاً من إحداث تغيير جذري حقيقي؟


في نفس الإطار، إن إنتفاء إمتداد إيران في المنطقة وإعادة لجمها داخل حدودها، وسقوط نظام آل الأسد الطّاغية، وحضور الجيش اللّبناني الفعلي على الأرض، ثم إنتخاب شخصيّة رصينة كجوزيف عون لتولي مهام رئاسة الجمهوريّة وتكليف شخصيّة أكاديميّة كنوّاف سلام لتولّي مهام رئاسة الحكومة، كل ذلك، ترافق مع شعور بالنشوة الانتصارية، تمثلت بمزيج من الإرتياح والفرح والإبتهاج لدى معظم اللّبنانيّين مشابهة لتلك التي عاشها اللبنانيون في ١٤ أذار ٢٠٠٥ عند خروج الجيش الأسدي المحتل، كما في محطات أخرى سابقة في في منعطفات تاريخ لبنان.



لا يمكن تحليل هذه التّفاعلات، خارج سياق " الشّخصيّة اللّبنانية " التّي وُجدت كي تُثبِت وجودها، في جغرافيا أقلّ ما يمكن القول عنها " لعينة " وتاريخ تملؤه المنعطفات الحادة، كما لم ينصف المجتمع الاقليمي والدولي حضورها ومدى احتياج البشريّة لتجتربتها إن تركوها تعبّر عن وجودها وحضورها ومصيرها كما شاءت وتشاء.



إن العائلات الرّوحيّة في لبنان تمتلك أشياء كثيرة مشتركة، وبعيداً عنّ الدّلعونا والتّبولة والكبّة النيّة، فكلّها مجبولة بذهنية "المقاومة المستمرة" وهي حالة إثبات الوجود عند ظهور أي تهديد. و هنا يجب التأكيد بأنّ الخوف الوجودي المستمّر قد برمج "الشّخصيّة اللّبنانيّة " على سلوك المقاوم الدّائم، فطغى هذا السّلوك على كلّ الأدبيّات والممارسات السّياسية والإجتماعيّة الأخرى.



رغم مشروعيّة وأهمية "سلوك المقاوم" ونشوة اعتمادها كفلسفة حياتية، خصوصاً في هذا الشّرق المليء بالمفاجآت، فإنّنا قد وصلنا في رسم مصيرنا المشترك إلى رسم دائرة مقفلة مبنيّة على ثلاثة ركائز:



• الخوف الوجوديّ الدائم: إستخدام معجم خاصّ (تهديد الوجود، الخوف على هوية لبنان…)

• المقاومة: تأسيس جبهات سياسية وجمعيّات و كتابة أناشيد وخطابات شرسة.

• هزيمة الخصم: الإبتهاج وتوزيع الحلويات، و تأجيل أي كلام عن المرحلة المقبلة بحجّة التّوقيت غير المناسب.




من هذه الرّكائز يجب التّوقف عند الرّكيزة الثالثة و هي "هزيمة الخصم". حيث غالباً ما نربط في أدبيّات الرّكيزة الثانية أي " المقاومة " فكرة أنّ هزيمة الخصم تعني الانتصار الفعلي. ربّما في الفلسفة الإغريقورومانيّة هذا الطّرح مقبول.



لكنّ في الواقع البراغماتيّ، إنّ الإنتصار الفعلي يكمن في تحقيق المكاسب ووضع اللبنة ثم الاخرى في بناء المشروع السّياسي الذي نحمله، وهذا للاسف ما لا نجده في"الشّخصية اللّبنانية".



تجاوز الماضي لبناء المستقبل

إن بناء المستقبل يتطلّب تجاوز عقليّة الماضي، حيث ان لبنان اليوم هو أجيال من الصراعات والمقاومات التي باتت حملاً يُثقل تاريخ كل مجموعة من العائلات الرّوحيّة. ومع ذلك، فإن التحدي اليوم لا يتمثل في فكّ رموز الماضي، مطلقاً، إنما في إجابة سؤال أكثر إلحاحًا:



هل نحن مستعدون لتجاوز النّوستالجيا الوجوديّة والمصالح الطائفية الضيّقة لبناء مستقبل مشترك أكثر إستقراراً ؟

هل يكفي استبدال شخصيّات بوجوه جديدة أخرى؟ تارخ لبنان علّمني أشياء عدّة سأذكر إثنين منها:



• القدرة لا تعني الجهوزيّة.

• هزيمة الخصم لا تعني الإنتصار.

هذان المبدآن ينطبقان على الـ-لبنان بدقة.



إن التركيز على هزيمة الخصم بأدوات قد لا تكون الجهة المقابلة جزء منها، غالباً ما يتم تصويرها كحلّ نهائي وجذري للأزمة، بينما هي فعلياً تذليل عقبة لبداية إنطلاق للحلّ (المشروع المفترض تطبيقه).



هناك مقولة شهيرة تقول "كلّنا الشّرير في روايات بعضنا البعض" حيث لا يمكن الخروج من مسرحية ”معياريّة الخير والشّر" إلّا باعتماد نظام سياسي لا يحدده هكذا نوع من المسائل السّطحية.



ان المطلوب ليس مجرد وجوه جديدة، بل تغيير جوهري في بنية النظام، والثّقافة المجتمعيّة المشتركة وطبيعة العلاقة السّياسية بين المكوّنات، إفساحاً لمجال أوسع للتعبير عن هواجسها وحضورها ومصيرها.



إن آفة النشوة من هزيمة الخصم توصل حتما إلى شلّ الفكر حيث يمكن إختصار الرّكيزة الثالثة التّي تكلّمنا عنها سابقاّ "بالكريزة الوجوديّة " وقد ترجمت مثالا في حدث كَ ١٤ آذار 2005.

عندما تشهد " الشّخصيّة اللبنانية " على هزيمة خصمها أو عدوّها، تكتفي بردّة فعلها العفوية المشروعة فتتحول إلى عامل شلل فكري. هذا الشّعور بالإنتصار يشغل الفكر الجماعي، ويحجب التطلع الى الضرورات التحولية الضرورية لبناء المستقبل.



لبنان اليوم يقف عند نقطة مصيرية. أعيد تكرار ذلك لأنّها فرصة أخرى متاحة لا يجب علينا كشباب تفويتها.

لقد واجهنا التحدّيات عبر المقاومة إنما الآن علينا التّخلي عن تلك العقليّة المقاومة، وأن نسرع في تحويل الطاقة الجماعية المشتركة إلى مبادرات بنّاءة تتجاوز معايير الانتصار والهزيمة .



ان التفكير في المستقبل من خلال الانتقال من عقلية المقاومة الدائمة إلى ثقافة البناء ليس خيارًا أو فعلا بسيطًا. هذا يتطلب تغييراً في البنية العقلية الجماعية، والإنتقال من استحضار الصراعات إلى استحضار الرؤى المستقبلي.

إن تجربة جنوب أفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر، تعبّر عن حالة الإنتقال من حالة المقاومة الوجودية إلى حالة المبادرات الرّؤيوية التّي جسّدها نيلسون مانديلا،وهي تمثّل إلهاماً في تجاوز الصراعات نحو التأسيس لإطار وطني جامع.



يكمن السؤال المحوري في حالة لبنان اليوم في هل يمكن للمكوّنات اللّبنانية أن تتخلّى عن أعباء الماضي كمعيار لتحديد المصير فتدرك أن قوة الوجود والحضور لا تكمن في مقاومة الأعداء الدائمة وكتابة أساطير بطولية يعثر عليها أحفاد أحفادنا وهم " يقاومون " مرّة جديدة على أبواب المغاور، بل في قدرتها على تحقيق التّصالح البنيوي وبرمجة الشّخصيّة اللبنانيّة من شخصيّة يمتلكها هاجس الخوف ومصطلحات كالنّصر والصمود والمقاومة والنضال إلى شخصيّة تمتلكها إيجابية التّحرك نحو الآخر وتجسّد الرّيادية في تحقيق السّلام والإستقرار والتّطور من أجل الإنسان في محيطها؟



الخيار المصيري

في نهاية المطاف، الاختيار بين الانغماس في دوائر الصراع الدائم أو الانطلاق في رحلة البناء الجماعي هو القرار الأهم.

لبنان لا يحتاج فقط إلى قيادة سياسية جديدة، بل إلى ولادة ثقافة جديدة للفكر المشترك والمصير الجماعي المجتمعي.



إن كنتُ انا من صُنّاع المستقبل، فإن دعوتي إلى اللبنانيين هي أن يقفوا على عتبة هذا الخيار المصيري ويقرروا: هل نحن مستعدون لتحرير أنفسنا من دائرة الماضي؟

ان الحرية ليست مجرد مسألة تحرر من القيود أو الاحتلال، إنها القدرة على التخطيط والبناء. لقد حان الوقت لكي نصبح صانعي مستقبل، دعوتي اليوم هي الإنتقال من المقاومة اللّامتناهية من أجل القضيّة الى بناء القضية ضمن الرّؤية الواضحة الأهداف لتحقيق لبنان الذي نحلم به لبنان للجميع، عنيته، لبنان اللّامركزي، لبنان المحايد، لبنان الرّسالة رسالة الحرية......