د.جوسلين البستاني

لا أسف على رحيل إدارة بايدن

من جيمي كارتر الذي دعم الخميني ومكّن الثورة الإسلامية، إلى بيل كلينتون، باراك أوباما، وجو بايدن، وقع الرؤساء الديمقراطيون في فخّ الأمل الكاذب بعقد "صفقة كبرى" مع إيران. على مدى عقود، تبنّى هؤلاء الرؤساء الوهم بأن السلام مع قادة إيران مُمكن، لكن بدلاً من تحقيق ذلك، ساهموا في جعل العالم أكثر خطورة. فعلى الرغم من العقوبات الأميركية المفروضة على التجارة مع إيران منذ أزمة الرهائن في السبعينات، سعى كلينتون للتفاوض مع طهران من خلال قنوات خلفية قبل انتخابات عام 2000، إلا أن الصفقة فشلت، لكن الحلم لم يتلاشَ. ثم برز في استمالة الديمقراطيين، خلال إدارة جورج بوش، المجلس الوطني الإيراني الأميركي (NIAC) الذي يُعتبر "لوبي إيران" في واشنطن. هدفه كان واضحاً: منع أي ضربة عسكرية ضد إيران، رفع العقوبات الأميركية والدولية، والترويج لفكرة "صفقة كبرى" مع القيادة الإيرانية.


بدوره، تعهّد أوباما لدى دخوله البيت الأبيض عام 2009، بتحسين العلاقات مع إيران كجزء من تقارب أوسع مع العالم الإسلامي. في تلك الفترة، شعر المجلس الوطني الإيراني الأميركي أن الظروف أصبحت مؤاتية لتحقيق أهدافه، خصوصاً حين خرج الملايين من الإيرانيين إلى شوارع طهران في أيار 2009 احتجاجاً على إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد المُتنازع عليها، والتزم أوباما الصمت. كانت الفكرة التي روَّج لها هذا المجلس، وتبنّتها إدارتا أوباما وبايدن، تقوم على افتراض أن النظام الإيراني يُمكن رشوته للتخلّي عن برنامجه النووي، وأن إيران قد تكون حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة، ربما أكثر من السعودية. لكن الواقع أثبت خلاف ذلك، لأن سنوات من محاولات الاسترضاء لم تثنِ إيران عن طموحاتها النووية. فاستمرّت في تمويل وكلائها في سوريا ولبنان واليمن، وواصلت تطوير برنامجها النووي حتى خلال فترة "صفقة" أوباما المُفترضة. تلك التي أقرّ في شأنها بن رودس، مستشار أوباما للأمن القومي، أن الرئيس كذب على الشعب الأميركي لتمرير الاتفاق المعروف بـ "قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني"، من دون الحصول على موافقة الكونغرس. والاتفاق، بحسب منتقديه، حدّد التنازلات التي يجب أن تقدّمها الولايات المتحدة، بينما لم يُلزِم إيران بأي تنازلات حقيقية. حتى في حال التزام إيران ببنوده، كان في أفضل الأحوال سيؤخّر تطويرها للسلاح النووي لمدة عشر سنوات فقط. من هنا، وصف معارضو الاتفاق النووي بأنه سيّئ للغاية وهو مجرد تأجيل موَقت لتصعيد مؤكّد.


لكن الأخطر، وفي إطار تصميمها على إبرام الاتفاق النووي مع إيران، قيام إدارة أوباما في عام 2015 بعرقلة حملة لإنفاذ القانون أُطلق عليها اسم "مشروع كاسندرا"، استهدفت أنشطة تهريب المُخدّرات لجماعة "حزب الله". عملياً، انعكست رغبة الإدارة الأميركية في تصوّر دور جديد لـ "حزب الله" في الشرق الأوسط، وحرصها على التوصّل إلى تسوية للبرنامج النووي الإيراني، عبر رفض وزارة العدل طلبات "مشروع كاسندرا" بتوجيه اتّهامات جنائية ضد عناصر "حزب الله". أما جون برينان، الذي شغل منصب كبير مُستشاري أوباما لمكافحة الإرهاب ثم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، فقد مضى إلى أبعد من ذلك. أوصى برينان بـ"استيعاب أكبر لـ "حزب الله" في النظام السياسي اللبناني". واعتبر لاحقاً أن الإدارة الأميركية تسعى إلى إيجاد سُبل لتعزيز "عناصر مُعتدلة" داخل "حزب الله"، الذي قال إنه تطوّر من "منظمة إرهابية بحتة" إلى حزب سياسي. هذه المُقاربة، التي تجاهلت الطبيعة الأساسية لـ "حزب الله" ودوره كذراع إيرانية لزعزعة الاستقرار في لبنان والمنطقة، اعتُبرت بمثابة شرعَنة ضمنية لأنشطته وتجاهل لجرائمه العابرة للحدود.


أخيراً، وفي يوم تولّيه منصبه في عام 2021، اتّخذ الرئيس جو بايدن خطوات تراجعية عن سياسات سلفه دونالد ترامب تجاه إيران، حيث ألغى العديد من العقوبات المُشدّدة التي كانت مفروضة على طهران، وحرّر لها مليارات الدولارات التي ساهمت في تمويل أذرعها. هذا التغيير في النهج الأميركي جاء في وقت تصاعدت فيه التهديدات الإيرانية تجاه واشنطن، إذ كُشف أن طهران كانت ترسل عملاءها لتنفيذ عمليات اغتيال تستهدف مسؤولين أميركيين سابقين، من بينهم مُستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، وحتى ترامب نفسه. لكن خطورة هذه التهديدات لم تدفع بوزارة العدل الأميركية إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد المسؤولين الإيرانيين الذين يقفون وراءها، بل اكتفت باعتقال الأفراد المتورّطين في المؤامرة.


هذا مجرد غيض من فيض سياسات الإدارات الديمقراطية التي منحت إيران مساحة واسعة للتحرّك ولدعم "حزب الله". نتيجة لذلك، أطالت عذابات لبنان الذي عانى من تداعيات مباشرة وغير مباشرة لهذا التمكين، سواء على مستوى زعزعة استقراره الداخلي أو استنزاف موارده الوطنية. فبالتأكيد لا أسف على رحيل بايدن.