نجم الهاشم

الإمبراطورية والإمبراطور (3 من 3)

ترامب يفترس أعداءه وأصدقاءه

قبل فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني 2025، كرّر الرئيس دونالد ترامب أكثر من مرّة وفي أكثر من مكان أنّه لو كان رئيساً لما حصلت حرب غزة ولبنان ولما حصلت حرب أوكرانيا، ولكان العالم تجنّب كوارث كثيرة. تصرّف ترامب منذ دخوله إلى الحكم في 20 كانون الثاني 2017 وكأنّه رئيس العالم الذي يملك قوة خارقة تُسقط دولاً وتمحو أنظمة إلى الحدّ الذي جعل أخصامه وأعداءه، وحتى أصدقاءه، يرهبونه ويخافون أن يفترسهم، هو الذي أتى إلى الرئاسة من خارج الصفّ بدا وكأنّ هوايته الاقتحامات والصدم، وأعطى انطباعاً بأنّه عندما يأمر يجب أن يطاع.


انطباع الانصياع لما يريده ترامب نقله إلى من يريد أن يصل إليهم. انتظر العالم كلّه إعلان فوزه في انتخابات الرئاسة في 6 تشرين الثاني الماضي بحيث تحوّل هذا الفوز إلى سباق من أجل ترتيب أوضاع كثيرة قبل أن يعود إلى البيت الأبيض. وعود كثيرة أطلقها وجعل العالم كلّه ينتظر تطبيقها.


صحيح أنه لم يكن رجل سياسة ولكنه لم يأت إلى السياسة من فراغ. ليس بهذه السهولة يمكن لرجل أعمال خسِر وربح وغامر وقامر وكانت له علاقات ملتبسة وحياة عامرة أن يدخل بهذه القوة إلى الحياة السياسية ليصبح الرجل الأكثر تأثيراً وإثارةً وحتى غموضاً في الولايات المتحدة الأميركية. لم يأتِ الرجل من المجهول لكي يفوز بترشيح الحزب الجمهوري وهو الذي لم يكن في هذا الحزب. ولم يأتِ من الفراغ ليبقى أيضاً مرشح الحزب ومستولياً على قراره وتأييده حتى بعد خسارته في انتخابات تشرين الثاني 2020 أمام منافسه الرئيس جو بايدن الذي أتى إلى الرئاسة من تجربة عمرها نحو أربعين عاماً في قلب القرار الأميركي والمؤسسة العميقة للدولة. أكثر من ذلك، أربعة أعوام قضاها ترامب خارج الحكم بقي يتصرّف فيها وكأنّه رئيس الظل الذي شكّل هاجساً دائماً لبايدن ولمن رغب في منافسته في الحزب الجمهوري. فهو لم يسلّم في أي وقت بأنّه خسر الانتخابات، وبقي متمسكاً بنظرية المؤامرة والتزوير.



شعارات لم يتخلَّ عنها

أطلق ترامب حملته الرئاسية الأولى في 16 حزيران 2015، في برجه في مدينة نيويورك. وصار مرشح الحزب الجمهوري، بعد أن فاز بأكبر عدد من الانتخابات التمهيدية، في المؤتمر الوطني للحزب عام 2016. وقد حظيت مواقفه بشعبية كبيرة سهّلت فوزه بالرئاسة. العناوين التي رفعها في بداية حملته وسباقه إلى البيت الأبيض لا يزال يحملها. تحدث في خطابه الأول عن الهجرة غير الشرعية وعن حق الإجهاض وتغيير الهوية الجنسية وعن الاقتصاد والبطالة والدين العام والإرهاب والاتفاق النووي مع إيران وأطلق شعار حملته الانتخابية الذي لم يتبدل وهو "جعل أميركا عظيمة مجدداً".


لا يكتفي ترامب بتحقيق الفوز فقط بل يجعل خسارة منافسيه مؤلمة وموجعة وكأنّه ينتقم منهم. لذلك يترك الكثير من الضحايا على الطريق في طريقه إلى السلطة وحتى وهو في السلطة. أسماء كثيرة رافقته في ولايته الأولى لم تبقَ إلى جانبه أو لم تُكمِل معه سنوات رئاسته الأولى، وأسماء كثيرة تخلّى عنها ليعود إلى البيت الأبيض بأسماء جديدة اختارها لتكوّن فريق عمله الجديد الذي يبني عليه حلم استعادة عظمة أميركا.


لم ينتظر ترامب كثيراً. قبل أن يعود إلى البيت الأبيض أطلق تحذيرات كثيرة وحدّد مواعيد لوضع ما يريده موضع التنفيذ وما كاد ينتهي من خطاب التولية حتى بدأ توقيع الكثير من هذه القرارات التنفيذية، مطبقاً استراتيجية استخدام القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والشخصية لصرف النفوذ الأميركي في العالم والتأكيد أن أميركا يمكنها أكثر من أي وقت تثبيت رجولتها.



بومبيو وبولتون والإنجيل

أكثر من عبّر عن هذه الاستراتيجة الأميركية كان وزير الخارجية في ولاية ترامب الأولى مايكل بومبيو وليس وزير الدفاع مثلاً مارك أسبر. فقد اعتبر بومبيو في الكثير من خطاباته أنه "لا يكفي أن تُظهر أنّك تملك قوة كبيرة رادعة، ولكن عليك أيضاً أن تُظهر أنّك على استعداد لاستخدام هذه القوة ضدّ من تعتبره عدواً لك". هذا التحوّل هو الذي قاد عقيدة القتل الأميركية الجديدة. بومبيو كان واحداً من رجال ترامب في ولايته الأولى وقد أتى من قلب الإدارة الأمنية والعسكرية الأميركية بعدما كان ضابط مدرعات وبعدما تولى رئاسة الاستخبارات الأميركية. وهو لم يتوانَ عن التصريح الدائم عن خلفياته الدينية المسيحية التي عبر عنها ترامب أيضاً في أكثر من مناسبة وفي حملته الرئاسية الأخيرة، عندما دعا إلى العودة إلى الإنجيل والقيم المسيحية. وقد اعتبر خصومه أنّه يحمل هذه الخلفية ويتصرف على أساسها وأن اليمين الإنجيلي المسيحي يقف وراء انتصاراته ونزعاته. ولكن بومبيو لم يكن الرجل المفضَّل لترامب في ولايته الثانية. تركه خارج الملعب كما فعل مع جون بولتون مثلاً، مستشاره السابق للأمن القومي في ولايته الأولى، الذي انتهى ضحية من ضحاياه وقد سخر منه وسحب عناصر الحماية الشخصية المخصصة له على رغم أنه مهدد أمنياً. لم يراع ترامب هذا الهاجس الأمر الذي جعل أيضاً كل من يقف معه يرتعد خوفاً من أن يلقى المصير نفسه.



أمن أميركا فوق كل اعتبار

لقد أخطأ زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن وزعيم حركة "طالبان" الملّا عمر في نقل المعركة إلى قلب الولايات المتحدة التي لم تصلها حرب من قبل إلا حروبها الداخلية وحرب التحرير. وأخطأ "حزب الله" في استهداف المصالح الأميركية في العالم. اعتقد الأصوليون الإسلاميون السنّة من "القاعدة" و"طالبان" والشيعة كـ "حزب الله" ومن ورائه إيران، أن في إمكانهم قلب "النظام الفاسد" في واشنطن، معتقدين أن "الشعب الفاسد" لن يقاتل، وكما هرب من الصومال عام 1994 ومن لبنان عام 1983 فلن يجرؤ على خوض أي مواجهة جديدة، ولكن حساباتهم لم تكن في محلها.


هذه الحسابات ضمن العقيدة الجهادية اعتبرت دائماً أن الولايات المتحدة هي رأس الصليبية الجديدة وتمثّل مجدها، ولا بدّ بالتالي من محاربتها بكل الوسائل المتوفرة. واعتقد هؤلاء أنّه بانهيار الاتحاد السوفياتي فقد حان الوقت ليسيطروا على الدول الإسلامية، باعتبار أن سقوط النظام الديكتاتوري الاستبدادي ستأتي بعده الخلافة الراشدة، وفق اعتقاد ديني مبني على حديث نبوي. ولكنّ أميركا مارست فوراً رجولتها على العالم. فاحتلت أفغانستان ثم العراق وقتلت أسامة بن لادن وآخرين من قادة "القاعدة" والتنظيمات التي استولدتها كـ "داعش" وغيرها. وانتظرت تصفية حساباتها مع إيران و"حزب الله". في ولايته الأولى لم يتأخّر ترامب عن إلغاء الاتفاق النووي الذي وقّعه سلفه باراك أوباما مع إيران. وقبل عام من انتهاء ولايته أمر في 3 كانون الثاني 2020 باغتيال قائد "فيلق القدس" في "حرس الثورة" الإيراني قاسم سليماني. هذا الاغتيال كان مؤشراً إلى قرار قصقصة أجنحة إيران. هذا القرار وجد ترجمته في الحروب التي شنتها إسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى" التي أدّت تباعاً إلى إنهاء وضع "حماس" كقوة عسكرية خطرة في غزة، واغتيال أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله في لبنان وإجبار "الحزب" على الموافقة على اتفاق وقف النار وتطبيق القرارات الدولية 1701 و1559 و1680 التي تنهي عملياً وضعه العسكري. وأكملت مروحة التغيير بسقوط نظام الأسد في سوريا وتولي "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع السلطة. وهذا ما أدى إلى قطع طريق طهران - بيروت وتحول سوريا من دولة مكمّلة للمحور الإيراني وداعمة لـ "حزب الله" إلى دولة معادية ممنوع أن يدخلها الإيرانيون والإسرائيليون.



أيام إيران و"حزب الله" قد ولّت

بعد خمسة أيام على اغتيال سليماني أعلن ترامب "طالما كنت رئيس الولايات المتحدة، فلن يُسمح لإيران مطلقاً بامتلاك سلاح نووي... لفترة طويلة جدّاً من الزمن، منذ العام 1979، ظلت الدول تتجاهل سلوك إيران المدمّر والمزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط وخارجه. ولكن تلك الأيام قد ولّت. إذ كانت إيران الراعي الرئيسي للإرهاب، وسعيها للحصول على الأسلحة النووية يهدّد العالم المتحضر. لن ندع ذلك يحدث أبداً... في الأسبوع الماضي، اتخذنا إجراءات حاسمة لمنع إرهابي عديم الرحمة من تهديد حياة الأميركيين. وبتوجيه منّي، قام الجيش الأميركي بالقضاء على أكبر قيادي إرهابي في العالم، إنه قاسم سليماني المسؤول شخصياً عن بعض أسوأ الأعمال الوحشية... فقد قام بتدريب الجيوش الإرهابية، بما في ذلك "حزب الله"، وشنّ ضربات إرهابية ضد أهداف مدنية. لقد أشعل الحروب الأهلية الدموية في كلّ أنحاء المنطقة. وقد جرح وقتل بوحشية الآلاف من أفراد القوات الأميركية... يجب على إيران أن تتخلى عن طموحاتها النووية وأن تُنهي دعمها للإرهاب... لقد أعيد بناء الجيش الأميركي بالكامل في ظل حكومتي. وأصبحت القوات المسلحة الأميركية أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن حقيقة أن لدينا هذا الجيش العظيم وهذه المعدّات الرائعة لا يعني أنّ علينا أن نستخدمها. نحن لا نريد استخدامها. إنّ القوة الأميركية، بشقيها العسكري والاقتصادي، هي أفضل رادع".


رافعاً هذا التهديد بالردع، لم يتبدل ترامب. الذين يخافون منه سيخافون أكثر. والذين معه يخشون على مستقبلهم. ولكن، هناك خوف من أن يغرق في أحلامه الكبيرة وأن يسقط ضحية شعارات قد يفشل في تحقيقها.