بعد انسحاب «القوات السورية» من لبنان في نيسان 2005، انقلب المشهد السياسي رأساً على عقب، وانخلطت الأوراق وتبدّلت التحالفات، وبدأت مرحلة سياسية جديدة لا يزال لبنان يعاني من تداعيات انطلاقها بطريقة عرجاء. وعلى عتبة مرحلة جديدة من تاريخ لبنان، قرر الدكتور توفيق هندي، السياسي والكاتب وأحد أركان «لقاء قرنة شهوان» الذي لعب دوراً مهماً في تلك الفترة، نشر الجزء المتعلّق بهذه المرحلة من مذكّراته، في كتاب بعنوان «من الماضي إلى المستقبل»، عن «دار سائر المشرق».
تنشر «نداء الوطن» مقتطفاً من هذه المذكّرات حول قيام هندي بمحاولة أخيرة للحيلولة دون انتقال رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» آنذاك، العماد ميشال عون، إلى الضفة المقابلة لحركة «14 آذار»، وتوقيع ما عُرف في ما بعد بـ«تفاهم مار مخايل».
معرفتي بميشال عون قديمة جداً وهي تعود إلى العام 1986 عندما كان قائداً للجيش، وكنتُ المستشار السياسي لقائد «القوّات اللبنانية»، وألتقي عون أسبوعياً خلال أكثر من سنتَين... لذا، عندما تتالت اجتماعات «لقاء قرنة شهوان» في شهر نيسان 2005 لتحديد وجهة التعاطي مع التطوّرات المتلاحقة ولا سيّما الموقف من الانتخابات النيابية في أيار 2005، كنت من الأقليّة التي اقترحت التعاطي المرن مع عون، رافضاً عزله ومخاصمته، محذّراً من إمكانية دفعه دفعاً نحو ارتكاب المحظور، وذلك بالرغم من علمي وعلم جميع أعضاء «قرنة شهوان» باجتماعاته المشبوهة مع كريم بقرادوني وإميل إميل لحّود في باريس.
ولكن أغلبية أعضاء «قرنة شهوان» استرسلوا في تناغمهم مع الأستاذ وليد جنبلاط الذي لعب عملياً دور رئيس مجموعة «14 آذار»، وذلك بهدف كسب أكبر عدد من النواب، ولاحقاً أكبر عدد من الوزراء في الحكومة العتيدة والتأهّل لرئاسة الجمهورية بما يخصّ أغلبية الموارنة منهم. وتطابقت فوبيا عون لدى هؤلاء مع الفوبيا عينها لدى جنبلاط. والكلّ يذكر كلام جنبلاط بخصوص التسونامي العوني الآتي من باريس. ومنذ ذلك الحين، تكثّفت الاتّصالات والحوارات غير العلنية في البداية بين عون و «حزب الله»، مما أدّى بتاريخ 6 شباط 2006 إلى ما سمّي بـ «تفاهم مار مخايل».
ما توقّعتُه حدث. فالجنرال عون شغوف بالسلطة وتطغى حساباته الشخصية على حساباته الوطنية، كغيره من المتعاطين في السياسة، إنما بـ «دوز» أعلى؛ وكماروني حلمه تبوؤ كرسي رئاسة الجمهورية. لذا، عملية عزله من قبل مجموعة 14 آذار، ولا سيّما بعد تشكيل حكومة السنيورة الأولى، دفعته إلى بدء حوار جدّي مع «حزب الله» بهدف التحالف معه لعلّ الظروف تتغيّر ويصبح الحزب قادراً على مساعدته للوصول إلى رئاسة الجمهورية.
بالمقابل، بعد أن أمّنت مجموعة «8 آذار» كتلةً وازنة في البرلمان ومشاركتها في الحكومة، كان من مصلحة «حزب الله» الاتّفاق مع التيار العوني، كونه الأقوى بأشواط شعبياً في الوسط المسيحي. فقرّرتُ التحرّك للحؤول دون توجّه عون لعقد تحالف مع «حزب الله»، انطلاقاً من مفاوضات بينه وبين «تيّار المستقبل».
لماذا «تيّار المستقبل»؟ لأنه أكبر مكوّنات «14 آذار» والأكثر اقتداراً. فإذا أفضت المفاوضات إلى اتّفاق، يُعمّم على باقي مكونّات «14 آذار». لذا، كان يتوجّب أن تبقى هذه العملية التفاوضية طيّ الكتمان التام كما لو لم تكن لتأمين نجاحها. ولذا، سمّيتها بالفرنسية «Processus Cinzano Mauve». فأعددت ما أسميتها «ورقة عمل لتحديد كافة مواضيع النقاش»، وهي عبارة عن المواضيع التي يجب مناقشتها والاتّفاق عليها بين المتحاورين.
ومما جاء في آخر بند فيها:
آلية تنفيذ الاتّفاق الخلاصي
• وضع النصّ النهائي للاتّفاق وتوقيعه بأسرع وقت ممكن.
• يجب أن يظلّ هذا الاتّفاق سرّياً تماماً كما هي المفاوضات التي تكون قد أنتجته لكي لا يخلق هذا الأمر لدى الأطراف الحليفة شعوراً بأنها أمام اتّفاق مطبوخ سلفاً وأنها لم تشارك في عملية صياغته.
• معالجة وضع الأطراف الحليفة أولاً بهدف إعادة العلاقات في ما بين أطراف «14 آذار» إلى صفائها وتبنّيها الاتّفاق المعقود.
• التوجّه مجتمعين لمعالجة وضع الأطراف الأخرى والسير قدماً موحّدين نحو تنفيذ خطّة الإنقاذ.
بتاريخ 23 كانون الأول 2005 توجّهتُ إلى الرابية والتقيت عون. حضر اللقاء جبران باسيل. قلت له إنّ «14 آذار» أخطأت في التعاطي معه، وإنّ تموضعه الوطني الطبيعي هو مع القوى السيادية، وإنّ المستقبل لها، وإنها الأقوى وبالتالي هي القادرة على تحقيق طموحاته وتأمين مصلحته الذاتية أيضاً وليس «حزب الله». وقلت له إني عازم على إصلاح علاقاته معها وإنّ هذا الأمر ممكن عبر مفاوضات سرّية تجري بدايةً بينه وبين «تيّار المستقبل» ومن ثم تعمّم، إذا وصلت إلى نتائج إيجابية، على كافة مكوّنات «14 آذار» والمطلوب منه تعيين شخص موثوق منه لإجرائها. فاقترح جبران باسيل كمفاوض. وكوني كنت أعرف أنّ باسيل هو الأقرب إليه وأنه يثق به، اعتبرت أنّ الجنرال جدّي بقبوله بالانخراط في العملية التفاوضية.
في اليوم التالي، أي في 24 كانون الأول، ليلة عيد الميلاد، التقيتُ فؤاد السنيورة في منزله في شارع بليس الساعة 6 مساءً. فبادرتُه بالقول إنّ «14 آذار» اقترفت خطأً جسيماً بتعاطيها مع الجنرال عون وإنه على قاب قوسَين من عقد اتّفاق مع «حزب الله»، ممّا سوف يحدث خللًا كبيرًا في ميزان القوى الاستراتيجي بين 14 و8 آذار لمصلحة الأخيرة. فقال لي إنه مستعدّ فوراً لإجراء اتّصال هاتفي معه. أجبتُه بأنّ هذا بالضبط ما يجب ألّا يفعله، إذ إنّ الهواتف مراقبة ولأن ليس فقط لا مصلحة لـ «حزب الله» بهذا التقارب، إنما أغلبية أطراف «14 آذار» ستتوجّس منه أيضاً.
عندها، عرضتُ عليه الحديث الذي دار بيني وبين عون وأنه وافق على إجراء المفاوضات السرّية التي عرضتُها عليه، وأنه يتوجّب علينا التحرّك سريعاً. فطلبتُ منه تعيين شخص من قبله للمفاوضة. بدأ يفكّر لمن سوف يولي هذه المهمة، فاقترحتُ اسم نواف سلام الذي كنت أعرفه جيداً منذ زمن بعيد وأعرف قربه منه. فقبل بذلك. ولكن بعد أيام معدودة، اتّصل بي نواف وقال لي إنهم سيعيّنون شخصاً آخر، وأنّ هذا الشخص سوف يتّصل بي لبدء المفاوضات. بعد بضعة أيام، اتّصل الدكتور محمد شطح لإبلاغي أنه كُلِّف بالتفاوض. لم أكن أعرفه شخصياً آنذاك. ولكن سرعان ما ربطتنا صداقة عميقة وتحوّلنا إلى توأم سياسي، وذلك حتى يوم اغتياله في 27 كانون الأول 2013.
حدّدت مباشرةً يوماً للتعارف وبدأت المفاوضات في منزلي واستمرّت فيه. وفي أول جلسة أُقرّت ورقة العمل التي كنت قد أعددتها. وفي هذه الجلسة، أبلغنا باسيل أنه يجري مفاوضات موازية مع «حزب الله». وتتالت جلسات المفاوضات بوتيرة جلستَين كلّ أسبوع. وأحرزنا تقدّماً مقبولاً في الاتّفاق على عددٍ من بنود ورقة العمل. ولم يكن دوري فيها حكماً فحسب، بل كنت أتعاطى معها كما لو كنت طرفاً ثالثاً فيها، وذلك بهدف إنجاحها.
آخر جلسة مثمرة كانت نهار الجمعة في 3 شباط 2006 حين حدّدنا يومي الثلاثاء والخميس في 7 و9 شباط. وكان بودّي أن نبرم الاتّفاق بنهاية هاتَين الجلستَين لحدسي بأن المفاوضات مع «حزب الله» تتسارع وبات الاتّفاق بين التيّار والحزب وشيكاً.
ولكن يوم الأحد في 5 شباط 2005، دخل إسلاميون سُنّة إلى منطقة التباريس ليحتجّوا أمام السفارة الدنماركية بحجّة الاعتراض على كاريكاتورٍ للنبي محمد. وقد أحدث هذا الدخول إلى الأشرفية «خضّة» في الأوساط المسيحية. وأتساءل حتى اليوم إن كانت هذه الأحداث مفتعلة، حرّكتها مجموعة من «وطاويط الليل» علمت أو أُعلمت بوجود العملية التفاوضية؛ فأرادت إحباطها من جهة وتغطية «تفاهم مار مخايل» الذي عُقد في اليوم التالي، وتبريره شعبياً، من جهة أخرى.
لم يتّصل بي شطح نهار الإثنين. اتّصل بي الثلاثاء الساعة الثالثة ليعلمني أنه لن يتمكّن من الحضور عند الساعة السادسة بسبب انشغال طارئ مع السنيورة. قلتُ له «هذا غير صحيح»، فأجابني: «شفت شو صار مبارح»، فطلبت أن ألتقيه الأربعاء. وهكذا تمّ. في الساعة السادسة، وصل باسيل إلى منزلي كما لو أن شيئًا لم يحدث. فقلت له إنّ محمد انشغل مع السنيورة، ولكن اجتماعنا الخميس لا يزال قائماً.
حاولت أن أقنع محمد باستئناف المفاوضات نهار الخميس. فأجابني بأنه مقتنع بعدم التسليم بفشل المفاوضات وبضرورة الوصول إلى اتّفاق يكون بديلاً عن «تفاهم مار مخايل». وأضاف «ولكن عندي بيعتبرو أنو اللي حدث هو خطير. فبنظرهم، تمّ ضرب أساس الصيغة اللبنانية القائمة على الثنائية المارونية - السنية واستبدلوها بالثنائية المارونية - الشيعية».
عرضتُ عليه أن يحضر نهار الخميس فقط لسماع ما لباسيل أنّ يقوله لنا وتكون هي الجلسة الختامية. وهكذا كان. شرح باسيل مضمون التفاهم محاولاً إقناعنا بإيجابياته. لم نقتنع بطبيعة الحال وانتهت الجلسة ومعها انتهت المفاوضات.