شارل جبور

الأحادية السورية والتعددية اللبنانية

من يراقب المشهد السوري يخرج بانطباع واضح أن الرئيس أحمد الشرع بدأ ورشة فعلية بترميم علاقات سوريا الخارجية بدءاً من المملكة العربية السعودية، والإمساك بمفاصل النظام والتهيئة لمشاريع اقتصادية وتنموية. وبالتالي، فهو يعمل على إعادة سوريا إلى الخريطة العربية والإقليمية في ظل أولوية عنوانها "سوريا أولاً" بعيداً عن الخطاب الخشبي للنظام البائد، واستطراداً محور الممانعة الذي ما زال يتمسّك بهذا الخطاب على رغم خسائره الموصوفة وانسداد أفقه السياسي.


لم يكن أحد يتوقّع أن يتأقلم الشرع سريعاً مع اللغة الدولية السائدة، وأن يخرج من الصورة العقائدية القديمة التي وكأنها من عدة شغل المواجهة مع نظام استبدّ بالسوريين وقتلهم وهجرّهم وحرمهم من العيش الكريم. لكن، وفي اللحظة التي وضع فيها يده على النظام، خلع ثوبه القديم ولبس لبوس رئيس الدولة الذي يضع على رأس أولوياته مصلحة دولته وشعبه أولاً. فبدأ رحلة البحث عن التوازنات الإقليمية التي تساعده في تحقيق الاستقرار والازدهار، وراغباً في أن يكون جزءاً لا يتجزأ من الشرعيتين العربية والدولية.


حدّد الشرع منذ اللحظة الأولى لتسلمه السلطة، تموضعه الواضح ضد النظام الإيراني من جهة، وانفتاحه على الدول الخليجية والعربية والإقليمية والدولية من جهة أخرى. وفاجأ الجميع بانفتاحه ورغبته بالتعاون ومدّ الجسور مع الغرب والشرق، سعياً إلى إخراج سوريا من كبوتها، ونقلها إلى مكان أفضل مالياً واقتصادياً. إن ابتعاده عن المجتمعين الدولي والعربي يُبقي سوريا دولة فاشلة ومعزولة.


من الواضح، أن الرئيس الشرع يعمل على خطّين: خط تأمين الاستقرار السياسي والأمني والمالي للسوريين. وخط أحادية سياسية في الحكم مع محاولة لتوسيع أطر المشاركة في المشهد السياسي وليس القرار السياسي. وسيكون منفتحاً على مناقشة الحلّ النهائي لسوريا مع عواصم القرار، خصوصاً أن المتحوِّل الوحيد اليوم هو انتقال النظام من الأسد إلى الشرع، فيما لا تزال السيادة السورية منتقصة، وبالتالي سيقود المرحلة الانتقالية نحو سوريا الجديدة.


إذا لم ينجح محور الممانعة باغتيال الشرع، فإن سوريا ستدخل معه في حقبة مستقرة ومزدهرة خلافاً لما كانت عليه إبان حكم آل الأسد. وهو يُدرك أن أولوية الممانعة في حال نجحت في تجاوز عاصفة ترامب-نتنياهو، ولن تتمكّن من اجتيازها، أن تعمد إلى إزاحته من المشهد السوري، لأنه أقفل أمامها طريق التدخُّل في الشأن الفلسطيني، ومنعها من تعزيز قدرات درة تاجها "حزب الله" الذي سقط عسكرياً مع سقوط نظام الأسد.


وفي مطلق الأحوال، نجحت أحادية الشرع في وضع سوريا على طريق الحل والاستقرار. فيما لا تزال التعددية اللبنانية تراوح في الأزمات منذ أكثر من نصف قرن. وتبدّدت آمال الحل مع انتهاء الحرب في العام 1990، ومع خروج جيش الأسد في العام 2005، ومع توقيع "حزب الله" على نهايته العسكرية في العام 2024 وسقوط خط إمداده في مطلع العام الحالي.


كان الرهان معقوداً على فرصة قيام دولة فعلية بعد انتهاء مشروع "الحزب" الإقليمي، وانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وتكليف الرئيس نواف سلام تأليف الحكومة. لكن الانطباع العام بفعل الممارسة في الانتخاب والتكليف والتأليف، يؤشر إلى انتقال هذا الفريق من تعطيل الدولة عسكرياً، إلى محاولة تعطيلها سياسياً.


من الوهم الرهان على أن الثنائي الشيعي سيندمج مع مشروع دولة. ليس فقط لأنه اعتاد أن تكون الدولة دولته، إنما لكون تكوينه يتناقض مع مفاهيم الدول والدساتير والقوانين. فهو ثورة دينية مسلحة وتوسعية لا تعترف بحدود، وعدوها الأول هو الاستقرار. وبالتالي، لن يكتب للتعددية اللبنانية النجاح مع النظام المركزي القائم. وهذا الفشل عمره من عمر الجمهورية.


من الخطأ، مقارنة الوضع الحالي بالوضع الذي كان قائماً في أربعينات القرن الماضي عندما كان المعطى الخارجي يسمح بالاستقلال، على غرار المعطى الحالي مع اندحار المشروع الإيراني. والسبب أن العقل السني براغماتي ودولتي في تكوينه، فيما العقل الشيعي الإيراني مع الثورة هو دوغماتي وغير دولتي.


من الصعوبة بمكان ، القفز فوق المعطى الشيعي الإيراني في لبنان بسبب ديموغرافيته واستئثاره بقرار طائفته. والمعادلة معه هي كالتالي: لا دولة معه ولا دولة من دونه، والرهان على استيعابه في غير محلّه. كما ان الرهان على عامل الوقت هو مضيعة للوقت. والحلّ الوحيد يكمن في الانتقال من مركزية النظام إلى لامركزيته. وفي حال لم يحصل هذا الأمر، فإن ما تحقّق في هزيمة "حزب الله" مشروعاً وسلاحاً، سيتم إجهاضه بإبقاء الدولة معطلة ومشلولة وفاشلة.


لكن تغيير طبيعة النظام، بحاجة إلى توافق جميع اللبنانيين، وتحديداً الجماعات اللبنانية. فهل هذه الجماعات، وتحديداً السنة والدروز في هذا الوارد؟ وماذا لو رفض الثنائي الشيعي لأسباب عقائدية أو لاعتبارات مصلحية تتعلّق في استفادته من الدولة المركزية مالياً، وإدراكه المسبق بعدم قدرته على إدارة مقاطعته، فهل يمكن الذهاب في الاتجاه اللامركزي على رغم عدم موافقة الجماعات الأخرى؟


من الثابت في هذه الصورة كلها، أن إدارة التعددية من خلال مركزية النظام فشلت فشلاً ذريعاً. وحان الوقت للإقرار بهذا الواقع بعد 60 سنة من الفشل المتواصل، فيما عدم الإقرار هو جريمة بحق اللبنانيين الذين من حقهم العيش في دولة آمنة ومستقرة ومزدهرة، خصوصاً بعد أن استعاد لبنان إمساكه بالسلاح والحدود والقرار الاستراتيجي والسياسة الخارجية، وفي ظل وضع دولي مثالي يسمح في ترتيب أوضاعه الداخلية وهندستها بعيداً عن صراعات المحاور وتدخلات الخارج.


للبحث تتمة.