عيسى مخلوف

وَقفَة من باريس

حياتنا الخاصّة في العَراء

17 آب 2019

01 : 29

طالعتنا هذا الأسبوع مقالات عدّة يحمل بعضها العناوين الآتية: "هجوم إلكتروني استهدف 120 مؤسّسة صحّية في فرنسا"، "الولايات المتحدة: موظّفون في شركة "غوغل" يندّدون بالتوقيع على عقد محتمل مع دائرة خدمات الهجرة"، "طالبة، 11 سنة، تنتحر إثر مضايقتها عبر الفيسبوك". "يعترف الفيسبوك بأنّه استمع إلى محادثات خاصّة للمستخدمين ونَسَخَها"، "شبكة للمراهقين استهدفتها عصابة من المحتالين".

صحيح أنّ الأجهزة الإلكترونية الحديثة تتيح لنا إمكانات كبيرة وتسهّل التواصل بين البشر، لكن الصحيح أيضاً أنّها مصدر تهديد متزايد، إذ يعشّش في ظلمة كواليسها منتفعون ينصبون الكمائن، وقراصنة يستغلّون برمجيّات متطوّرة، ويتلطّى وراءها أيضاً نَسَقٌ اقتصاديّ لا يعنيه إلاّ الربح، حتى لو تحوّل العالم كلّه إلى أنقاض.

يعرف مستخدمو غوغل وفيسبوك وإنستغرام وواتس أب وتويتر أنّ استخبارات الكثير من الدول تراقب الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ويعرفون أنّ بياناتهم ومعلوماتهم الخاصّة تُباع من أجل استخدامها لأغراض تجاريّة، وأنّ حياتهم الشخصيّة قابلة للاختراق كلّ لحظة، ومع ذلك فإنّهم يستعرضون أنفسهم بصورة متزايدة. نحن نتعامل مع وسائل افتراضيّة، لكن انعكاساتها علينا ليست افتراضيّة على الإطلاق.

وفق إحصاءات أخيرة، تعرّضت نسبة 25 في المئة من مستخدمي الفيسبوك في فرنسا، ممّن تتراوح أعمارهم بين الثامنة والسابعة عشرة من العمر، لمضايقات ولابتزاز جنسي وشتائم وإشاعات مغرضة. هذا المناخ الأسود دفع البعض إلى الانتحار، وكانت آخر المنتحرات طالبة في الحادية عشرة من عمرها. ولقد طالعتنا، في الآونة الأخيرة، إعلانات من النوع الآتي: "لا تتركوا أولادكم في غرف نومهم وحدهم مع جهاز الكمبيوتر". ألم يصرّح بعض أسياد "السيليكون فالي"، عاصمة التقنيات الجديدة في العالم، أنهم يحظّرون على أولادهم استعمال الأجهزة الإلكترونية أو يدعونهم، على الأقلّ، للحدّ من استعمالها، لأنهم يعرفون، أكثر من غيرهم، مدى تأثير هذه الأجهزة عليهم وعلى تركيزهم ونزعتهم الإبداعيّة، إذا ما استُعملَت بطُرق معيّنة.

تغوينا الآلة التي بين أيدينا. إنها كون صغير مفتوح على الكون الأكبر، والشاشة التي أمامنا شرفة تطلّ على شرفات أخرى. القابعون مثلنا وراء شاشاتهم ينظرون إلينا، ونحن ننظر إليهم وإلى أنفسنا في عيونهم. نلوّح لهم ويلوّحون لنا بالكلمات والصور. كأنّما نرميها من نافذة قطار مسرع. ثمّ نغضّ الطّرف عن انعكاسات الشبكات الرقميّة لما توفّره لنا من إمكانيّة الظهور والإعلان عن الذات. وهذا ما جعل مجلّة "التايم" الأسبوعيّة تُفرد غلافاً خاصّاً للحديث عن جيل جديد ضاعفَت بعض الوسائل التقنية الحديثة من نرجسيّته وأوصلَتها إلى حدود مَرَضيّة. نبتسم أمام "السيلفي"، أو نغرق في الضحك. نروي سيرتنا ومغامراتنا، ونكشف عن هواجسنا الأكثر حميميّة. صرنا موظّفين في إدارة شؤون أنفسنا وصياغة صورتنا في عين الآخر. في الضفّة المقابِلة، هناك من يرانا الآن ويستمع إلينا، ولسنا وحيدين في ليل العالم. افتراضياً، لسنا وحيدين. تَمُرُّ لحظات قبل أن نترك المكان للآخرين الآتين مع كتبهم وأوراقهم، مع ذكرياتهم وألبومات صُوَرهم، مع مأكولاتهم ومشروباتهم، مع تطلّعاتهم وأحلامهم. نستأذنهم لنرتاح قليلاً، أو ربّما لننام. نعدهم بأنّنا لن نكون بعيدين، ولن نتأخّر. سنعود لا محالة في أقرب وقت. وفي هذه البرهة الفاصلة، ثمّة من منّا يتعمّق شعوره بالوحدة بقَدر ما يتصوَّر ويعرض صُوَره، كذاك الماء في الأسطورة الإغريقية كلّما شربنا منه نزداد عطشاً.

ما كنّا نخفيه، بالأمس القريب، من يوميّاتنا الخاصّة وصُوَرنا الحميمة، فنقفل عليها الأدراج لنحميها من أعين المتطفّلين، أصبحنا نكشفها اليوم على الملأ، وندعو إلى رؤيتها، بل نستاء من أصدقائنا إذا لم يلتفتوا اليها. صرنا نتلصّص على أنفسنا بينما يتلصّص الآخرون علينا من كلّ جانب، ولأغراض مختلفة.

في مقال بعنوان "تَقَدُّم تكنولوجيا المعلومات يعلن نهاية الحياة الخاصّة"، نشرته منذ سنوات صحيفة "نيويورك تايمز"، تحدّث مؤسّس ويكيليكس جوليان أسانج عن كتاب بعنوان "العصر الرقميّ الجديد"، ولاحظ كيف أنّ مؤلّفَي هذا الكتاب، إيريك شميت وجاريد كوهين، وهما من مسؤولي شركة "غوغل"، يفصحان عن كيفيّة استعمال التقنيات الحديثة لتجسيد الصورة التي وصفها الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته "1984"، وعن دور التكنولوجيا في قَولَبَة الشعوب وإعادة صياغة الدول على صورة القوّة الأعظم في العالم.


MISS 3