لكل مرحلة معادلاتها وتموضعاتها وتحالفاتها وعناوينها وأولوياتها، وشكل خروج جيش الأسد من لبنان بداية لمرحلة جديدة انقسمت الحياة السياسية فيها بين فريق 14 آذار الذي يريد دولة طبيعية تحتكر وحدها السلاح وتُمسك بحدودها وتسيطر على أرضها وتملك قرار الحرب، وبين فريق 8 آذار الذي يريد إبقاء لبنان ساحة لمشروعه الإقليمي في ظل دولة شكلية تغطي دويلته ويسيطر على قرارها.
وبمعزل عن التصدعات في جبهتي 8 و 14 آذار، إلا أن العنوان الانقسامي لم يتبدّل في ظل من هو مع الدولة، ومن هو مع الدويلة، إلى أن انتصر مشروع الدولة على الدويلة مع اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعاد التأكيد على ما ورد إن في اتفاق الطائف لجهة حل جميع الميليشيات، أو في القرارات الدولية 1559 و 1680 و 1701. وشكل سقوط نظام الأسد الضربة القاضية لمشروع الدويلة، ففتحت أبواب المؤسسات بانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة وتشكيل حكومة في طليعة أولوياتهم تطبيق الدستور والقرارات الدولية باستعادة الدولة دورها السيادي.
ومع هذا التطور، طويت المرحلة التي بدأت مع خروج الأسد وانتهت مع سقوطه وسقوط المشروع الممانع المسلّح في لبنان. ولا يفيد بشيء عدم إقرار "حزب الله" بهذه الوقائع، لأن ما حصل ليس وجهة نظر، إنما معطيات ميدانية لا يمكن تبديلها سوى بمعطيات ميدانية أخرى، فيما المنحى الدولي والإقليمي يتّجه إلى اقتلاع المشروع الممانع من جذوره الإيرانية.
ولأن لكل مرحلة عنوانها الرئيسي، ولأن العنوان الرئيسي بين عامي 1990 و 2005 كان إخراج جيش الأسد من لبنان، والعنوان الرئيسي بين عامي 2005 و 2025 إنهاء المشروع المسلّح لـ"حزب الله"، فهل العنوان الرئيس للمرحلة التي بدأت في العام الحالي، يجب أن يتمحور حول استرداد دور الدولة واستعادته وتقويته وتحصينه في ظل اندحار المشروع الممانع، ووجود ظروف دولية مساعدة لتعزيز مشروع الدولة، وبيئة لبنانية حاضنة لهذا المشروع؟
الأكيد، أن مشروع "حزب الله" المسلّح انتهى. والأكيد بالمقابل، أن هذا المشروع يرفض التسليم بهذه النتيجة والانخراط في مشروع الدولة. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة على طريق المطار، أن "الحزب" تحوّل إلى قوة تخريب، ولكنه عاجز، وحتى إشعار آخر، عن تعطيل مسار الدولة وما تتّخذه من قرارات. إلا أن عجزه لن يثنيه عن السعي لفرملة قطار الدولة على رغم أنه أضعف اليوم من الثورة الفلسطينية قبل اندلاع الحرب اللبنانية رسمياً، لأنه ممنوع أن يكون له أي جيوب أو مخيمات مسلحة على غرار هذه الثورة، ولا يحظى بتأييد أوسع من جزء من بيئته، وخارج من حرب دمّرت قوته وقطعت شريان تواصله مع مرجعيته، ويخضع لرقابة دولية مشددة، وبالتالي لا هو قادر على رشق إسرائيل بالحجارة، ولا قادر على التهريب من سوريا، ولا قادر على تلقي التمويل جواً وبحراً.
على الرغم من ذلك كله لا يريد "حزب الله" الإقرار بالوقائع الجديدة. ورفض "الحزب" الإقرار بالوقائع، يعني رفضه العمل تحت سقف الدولة والدستور. وما حصل على طريق المطار ، سيكون القاعدة التي سيلجأ إليها عند كل استحقاق او مفترق أو قرار لا يتوافق مع مصالحه ودوره. لكن الفارق الكبير بين الأمس واليوم، أن الدولة كانت تحت سيطرته ومكبلة ومفككة وفاقدة للقرار، وكان "الحزب" في موقع الفعل، فيما تحرّرت الدولة اليوم من سيطرته وتعمل بمعزل عن تأثيره، فتحوّل إلى موقع ردّ الفعل على قراراتها من دون القدرة على تعطيلها. إلا أنه سينتقل من جولة مواجهة مع الدولة إلى أخرى ، ظناً منه أن باستطاعته ضرب مشروعيتها وصدقيتها والعمل على شيطنتها في استنساخ للتجربة عشية الحرب ومن ثم الشيعية العسكرية إبان الحرب.
ما لا يدركه "حزب الله" أن الزمن اليوم يختلف عن زمن ما قبل العام 1975، ويختلف عن زمن شباط 1984، فهذا الزمن ولّى، ولن يجد من يتحالف معه من الطوائف الأخرى، خصوصاً أنه غير قادر على تكرار تجربة الحركة الوطنية، ولا تكرار تجربة 8 آذار، وأصبح في قتال تراجعي، وكأن أقصى ما يريده في الوقت الحالي تجميد وضع الدولة المتمدِّد على حسابه بانتظار ما ستؤول إليه المفاوضات الأميركية - الإيرانية، وبالتالي يخيِّر الدولة بين أن يتحول إلى قوة تخريب متنقلة، وبين أن يتفق معها على ثلاثة عناوين أساسية: تجميد البحث بسلاحه شمال الليطاني، عدم المس بالمواقع الشيعية في الدولة دون موافقته، وإبقاء الجسر الجوي بين طهران وبيروت سالكاً.
ولكن الاتفاق على أي من هذه العناوين غير ممكن، فلا إمكانية للبحث بسلاحه والمطروح هو تطبيق الدستور والقرارات الدولية واتفاق وقف إطلاق النار، ولا بحث في استمرار سيطرته على الدولة العميقة، ولا بحث في إبقاء تمويله الإيراني، فهذا التمويل هو لتخريب لبنان وعلى حساب الدولة، وأما وقد عادت الدولة فهذا التمويل سيتوقّف بإرادة دولية ولبنانية، ولكنه لن يسلِّم بذلك لأن هذا الجسر يشكل طريق إمداده المالي الوحيد، وهو بأمس الحاجة لهذا المال حفاظاً على ميزانيته وتوازنه، وقطع الشريان الأخير يُفقده توازنه وسيطرته على أرضه.
ومعلوم أن القرار بقطع إمداده من إيران هو خارجي بالدرجة الأولى، وعدم التزام لبنان يضع المطار برمته تحت الخطر، فيما يخشى "الحزب" ان يؤدي انقطاع التمويل إلى تفكُّك بنيته العسكرية واضطراره إلى تسريح عناصره، ولكن هل يمكن أن يذهب أبعد من إقفال الطرقات لساعات وتنظيم الاعتصامات؟
الثابت لغاية اليوم أنه لم يقتنع بعد بانتهاء دوره، ولن يقتنع إلا في حال بلِّغ من مرجعيته تخليها عن مشروعها الخارجي، أو سقوط المشروع الإيراني برمته، أو تمّت محاصرته بالقوة على غرار ما هو حاصل دون أي مساومات على حساب الدولة، وقد أصبح عالقاً بين عدم قدرته على استخدام السلاح، وعدم قدرته على وقف مشروع الدولة.
وعلى رغم اختلاف المرحلة بين ما قبل انتهاء المشروع المسلّح لـ"حزب الله" مع اتفاق وقف إطلاق النار وسقوط الأسد، وما بعد النهاية العسكرية لمشروع "الحزب"، فإن العنوان يبقى نفسه: تعزيز دور الدولة وتحصينه، لأن ما يقوم به "الحزب" هو مواصلة تقويض دور الدولة، وطالما انه في موقع الضعف داخلياً وخارجياً، والدولة في موقع القوة داخلياً وخارجياً، فلا يجب الانتقال إلى أي عنوان آخر قبل إنهاء المشروع المسلّح لـ"الحزب".