شربل صفير

70% من المهاجرين بين 25 و35 عاماً...

لبنان يشيخ وبصيص أمل في حكومته

لطالما كانت الهجرة جزءاً من تاريخ اللبنانيين، لكنها لم تكن يوماً بهذه القسوة. فقد تحوّلت إلى هروب جماعي من بلد يتداعى تحت وطأة أزمات خانقة. اليوم، يغادر الشباب اللبناني ليس بحثاً عن رفاهية، بل هرباً من واقع يزداد قتامة، في ظل انهيار اقتصادي، وانعدام الاستقرار السياسي، وتآكل الأمل بأي مستقبل واعد. فماذا كانت النتيجة؟ نزيف بشري يهدّد بقاء لبنان ككيان نابض بالحياة، محوّلاً إياه إلى أرض تتسع للموت البطيء ولا تحتمل لأحلام أبنائها.


أرقام تفضح المأساة

الهجرة لم تعد ظاهرة طبيعية بل باتت كارثة وطنية، وفق ما أفاد به الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين لـ "نداء الوطن". وأوضح أنّ معدلات الهجرة في لبنان وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث غادر 820 ألف لبناني ولبنانية بين عاميّ 2012 و2024، 70% منهم من الفئة العمرية بين 25 و35 عاماً، أي الشريحة الأكثر إنتاجية وقدرة على بناء الاقتصاد.


ويضيف شمس الدين أن الأرقام في تصاعد مستمر: عام 2022، هاجر 172 ألف شخص. في 2023، ارتفع العدد إلى 183 ألفاً. في 2025، من المتوقع بحسب شمس الدين أن يتجاوز العدد السنوات السابقة، ما لم تحدث معجزة اقتصادية وسياسية توقف هذا النزيف.


إلى ذلك، تُظهر دراسة حديثة "للباروميتر العربي" في عام 2024 أن 38% من اللبنانيين يرغبون في الهجرة، وتزداد هذه النسبة بين الشباب والمتعلمين. وأعرب 58% من الفئة العمرية بين 18 و29 عاماً عن رغبتهم في مغادرة البلاد، وهي نسبة تضاعف تلك المسجلة بين من هم أكبر من 30 عاماً. الأسباب الرئيسية لهذه الرغبة تتنوع بين الظروف الاقتصادية المتردية (72%)، والمخاوف الأمنية المتصاعدة (27%)، بالإضافة إلى الفساد المستشري (24%) والقضايا السياسية (23%).


هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل صفعة تدلّ على أن لبنان يواجه خطر التفريغ الكامل من طاقاته البشرية. فإذا استمرت الهجرة بهذا النسق، فسنصل إلى لحظة يصبح فيها البلد مجرّد ذكرى، مكاناً يعيش فيه كبار السن، فيما شبابه يبنون أوطاناً أخرى.


لبنان يفقد شبابه!

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 30% من سكان لبنان سيكونون فوق سن 65 بحلول عام 2050، ما يشكّل عبئاً اقتصادياً وصحياً هائلاً، ويهدّد أي إمكانية للنهوض من جديد.


قطاع الصحة يحتضر: فقدان 40% من الأطباء و30% من الممرضين أدى إلى نقص كارثي في الخدمات الطبية، ما دفع المستشفيات إلى تقليص خدماتها أو إغلاق أبوابها، تاركة المرضى بلا رعاية.


التعليم في خطر: هجرة 4,500 أستاذ جامعي أدت إلى تراجع خطير في جودة التعليم العالي، وساهمت في انخفاض تصنيف الجامعات اللبنانية عالمياً، ما زاد من نزوح الطلاب نحو الخارج دون نية للعودة.

الاقتصاد ينهار: فرار روّاد الأعمال والمستثمرين الشباب خلق فجوة هائلة في الدورة الاقتصادية، حيث تراجع الاستثمار الداخلي، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، ما أغرق لبنان في دوامة من الانحدار المستمر.


تفكّك اجتماعي ونفسي

الهجرة في السابق كانت قراراً فردياً، فيغادر أحد أفراد العائلة لتحسين أوضاعها. أما اليوم، فالهجرة أصبحت جماعية، حيث تهاجر عائلات بأكملها دون نية للعودة، تاركة وراءها مجتمعاً يفرغ من شبابه. النتيجة؟ تفكّك اجتماعي، تصاعد الاكتئاب وتلاشي الأمل بمستقبل مستقر.


هل هناك فرصة للإنقاذ؟ الهجرة ليست خياراً، بل نتيجة حتمية لعقود من الفساد وسوء الإدارة وانعدام الرؤية الاقتصادية. المسؤولون في لبنان لم يكتفوا بتدمير الاقتصاد، بل ساهموا في قتل الأمل في نفوس الشباب. إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فلبنان لن يكون، وفق شمس الدين، مجرّد بلد مأزوم، بل بلد في طريقه إلى الانقراض الديموغرافي.


كيف نوقف النزيف؟ إصلاح اقتصادي جذري: يجب تطبيق سياسات اقتصادية فعّالة توفر فرص عمل برواتب تكفل حياة كريمة، مع تحفيز الاستثمارات الداخلية والخارجية.


استقرار سياسي وأمني: الشباب لا يهاجر فقط بسبب الوضع الاقتصادي، بل بسبب فقدان الثقة بالدولة والعيش في ظل انعدام الأمان.

تشجيع المشاريع الريادية: منح الشباب تسهيلات اقتصادية كالقروض الميسّرة والحوافز الضريبية لإنشاء أعمالهم داخل لبنان، بدلًا من البحث عن مستقبل في الخارج.


مكافحة الفساد وإعادة الثقة بالدولة: الفساد هو السرطان الذي ينخر لبنان، ومن دونه لا يمكن بناء دولة قادرة على استعادة أبنائها. الشفافية والمحاسبة هما الأساس لأي إصلاح حقيقي.


هل يكون الغد أفضل؟ رغم كل هذا السواد، لا يزال هناك بصيص أمل، فمع تشكيل حكومة جديدة، تلوح فرصة لإحداث تغيير حقيقي، لإعادة بناء الثقة، ووضع خطط إصلاحية تفتح أبواب الأمل أمام الشباب. إن مسؤولية هذه الحكومة اليوم ليست مجرد إدارة أزمة، بل إطلاق مشروع إنقاذ وطني يعيد للبنانيين إيمانهم بوطنهم.


لبنان يستحق فرصة أخرى، وشبابه يستحقون مستقبلاً على أرضه، وليس في الغربة. فهل تكون هذه الحكومة بداية الطريق نحو لبنان الذي نحلم به؟ أم ستضيع الفرصة كما ضاعت من قبل؟ الكرة اليوم في ملعب المسؤولين، والرهان على أفعالهم وليس وعودهم.