كان اسمه فارس فأصبح أحمد فارس. فيلسوفٌ وأديب ومترجم وناشر ذاع صيته في كلِ المعمورة لكنه في لبنان، في لبنانه، يبقى مجهولاً بالنسبة إلى كثيرين. أحمد فارس الشدياق قد نعرف عنه شيئاً لكننا بالتأكيد نجهل أشياء. ولد قبل أكثر من مئتي عام ومات قبل أكثر من مئة عام وبعده أتت أجيال وأجيال من آل الشدياق. شارل كميل الشدياق أحد آخر أحفاده، قصدناه في بيت أحمد فارس في الحدث وسألناه: لماذا يعرف العالم عن فارس، أحمد فارس، ونحن بالكاد نعرف؟ ماذا في أسرار من ترجم التوراه والقرآن؟ وماذا عن مخطوطات تركها وجريدة "الجوائب" التي أصدرها في اسطنبول وتوجد نسخ منها في متحف إنكلترا ومتحف اسطنبول؟ وألف ماذا وماذا؟ ودخلنا من حيث لا نعلم في متاهات حزب الأحرار وكميل شمعون وبكركي والنكايات والإنكليز والفرنسيين والعثمانيين والنهضة العربية والانكسار والانتصار. أحمد فارس الشدياق، من خلال شارل كميل الشدياق، تحت المجهر:
هنا دارة الشدياق. آرمة تحدد المطرح. بنى والده يوسف البيت عام 1776. أشجار مثمرة مثل الليمون والزيتون تحوط المكان. وعبق التاريخ والفسلفة يزدحم في صور ومخطوطات. نجلس في حضرة الفيلسوف المعلقة صوره في الأرجاء بطربوشه الأحمر ولحيته الكثة. هذا هو أبو النهضة الفكرية ورائد القومية العربية وصقر العرب. تعريفٌ عنه من داخل البيت. فماذا في تفاصيل أهل البيت؟
شارل كميل الشدياق، حفيد أحمد فارس، يدنو من تسعينه. وفي رصيده ثروة لا تقدر بثمن: أعمال ومخطوطات وحياة الأديب الفيلسوف. كل شيء يدل على عظمة رجل لا نعرفه كثيراً يختصره حفيده بعبارة: «لو ولد فارس في أوروبا لدفن مع نخبة العظماء ولنصبت له تماثيل في كل مدن بلاده». لكن، لا نصب لأحمد فارس في لبنان ولا تماثيل. لماذا؟ في الجواب البسيط «لأنه أسلم». لكن، هل هذا هو كل الجواب؟ فلنتعرف أكثر عليه.
العجب حتى يُعرف السبب
والد أحمد يوسف كان «مقاطعجياً»، يلمّ المال ويدفعه للدولة. ويتردد في البيت اسم كتاب «الساق على الساق» الذي كتبه أحمد فارس عام 1845 وترجم إلى الفرنسية والإنكليزية وما زال يباع منه عشرات النسخ دورياً. نسأل شارل الشدياق عنه هو فيجيب «أنا من أحفاد أخيه. كان لأحمد فارس أربعة أشقاء. كانوا على التوالي: طنوس وغالب وفارس وأسعد ومنصور. أنا من سلالة منصور. وأحمد فارس أشهر إسلامه بعمر 59 بعدما عمل بروتستانتياً». لماذا تبدل حاله؟ عمّا كان يبحث؟ يجيب الحفيد «تأثر الفيلسوف بمن توالوا على لبنان منذ العام 1800، وتحديداً من أتوا وأسسوا الجامعة الأميركية في بيروت. تأثر هو بهؤلاء ومعه أخوه أسعد الذي «قتله» البطريرك يوسف حبيش عام 1827». قتله؟ يجيب بحسم «فعل ذلك لأنه اعتنق البروتستانتية وكان يشغل منصب أمين سرّ البطريركية. تأثر بالكنيسة الأنغليكانية الأميركية. البطريرك رفض ذلك، وعجز عن إقناعه بالعكس، وبوقف دعايته لتلك الكنيسة، فخطف من بيته، من هذا البيت في الحدث، ونقل مشياً إلى دير قنوبين بمساعدة المير بشير الثاني عام 1827 ومات في قنوبين ودفن هناك. تعذب ومات. فقامت قيامة فارس وثار على الكنيسة وغادر مع الإنكليز وساعدهم في ترجمة الكتب الدينية. ذهب إلى مصر، قاصداً محمد علي الكبي، صديق شقيقه غالب، واستطاع أحمد فارس، وكان لا يزال «فارساً» من دون أحمد، تغيير الوقائع المصرية من التركي إلى العربي. درس في الأزهر وأحبّ اللغة العربية والعروبة إلى درجة أنه أصبح مسلماً».
نقاطع شارل كميل الشدياق بسؤال: كثيرون اعتنقوا البروتستانتية وغير مذاهب فلماذا حُكم على أسعد الشدياق بالموت؟ يجيب «أحكمي على الموضوع بمنظار تلك الأيام». هل هذه الحادثة هي التي جعلته يعتنق الإسلام؟ يجيب «هو قال لهم (للكنيسة) بتحاوروه، بتنتقدوه، لكن بتقتلوه؟». هل نفهم من هذا أنه فعل انتقاماً لا اقتناعاً خصوصاً أن الإسلام لم يخلُ أيضاً من أحداثٍ من هذا النوع؟ لا إجابة. لكن بعض الإجابة وصلت على قاعدة: الصمت أكثر تعبيراً من كلام كثير. نعود لنسأله: هل انتقد أحمد فارس الإسلام كما فعل في المسيحية؟ يجيب «لم يحكِ بالإسلام». لماذا؟ «لا أعرف وسؤالك في محله». هل فعل ما فعل لأن صدر الإكليروس، حتى لو اخطأ في مكان، رحباً أكثر؟ «لا أعرف».
الساق على الساق
نضع «الساق على الساق» ونعود إلى تاريخ الفيلسوف. كان ساخراً في كتاباته. كتب في «الساق على الساق» عن الإنكليز «إذا دعاكم إنكليزي إلى العشاء تأكدوا أن تأكلوا قبل تلبية الدعوة لأن الإنكليز بخلاء».
«أتى الإسلام بأتاتورك بمساعدة أحمد فارس الشدياق». يخبر شارل الشدياق هذا ويشرح «كان أحمد فارس سفير الإمبراطورية العثمانية في بريطانيا. ولاحقاً، طلب منه تغيير الحرف الإسلامي إلى اللاتيني ليلغوا قوة وحضارة وعقيدة وتراث أكبر دولة إسلامية. فأين تركيا اليوم؟ جعلوا منها دولة أوروبية».
هناك اليوم آل الشدياق من المسلمين، فهل يتحدرون من أحمد فارس؟ «لا، أبداً، المسلمون من آل الشدياق لا علاقة لهم بأحمد فارس الشدياق. هو أنجب صبياً وفتاة. ابنته تزوجت من إنكليزي اعتنق الإسلام. أنجبا صبياً ومات ودفن في المدفن الإسلامي في فرنسا. وأولادها الباقون يحملون كنية والدهم «ليغ». فسرتُ مراراً للمسلمين في لبنان من آل الشدياق أنهم لا يتحدرون من أحمد فارس». أيّ شدياق إذاً هم؟ «هم مثل كل العائلات التي تنتقل من منطقة إلى منطقة ويغيّر أفرادها دينهم. هناك آل الشدياق في البسطة بينهم العميد السابق في الجيش اللبناني مروان الشدياق الذي اعتنق بدوره الإسلام. لا قرابة بيننا. نزل إلى بيروت واعتنق الإسلام».
شارل كميل الشدياق أحد آخر عنقود سلالة أحمد فارس ممن ينشرون فلسفته يقول «انا وحدي من اهتم بتاريخه وأحوز المخطوطات التي أنجزها وجمعها عمي فيليب - شقيق والدي - وكان طبيب الملك فؤاد، ملك مصر، الخاص». لشارل الشدياق شقيقان هما سيزار (قيصر) الذي أسس قسم طب العائلة في الجامعة الأميركية في بيروت. وشقيق آخر يعلّم الاقتصاد في جامعات تورنتو الكندية. لكن وحده من اهتم بالتراث ويتحدث عن نفسه «درستُ في مدرسة برمانا. أردتُ الدخول في السياسة، لكن كميل نمر شمعون خاننا. نحن ربيناه وعلمناه وكان والده يصعد في عربة الخيل الخاصة بنا إلى بعبدا حيث مكتبه ككاتب عدل. وكان جدي طبيباً بيطرياً يتنقل ليلاً ونهاراً على عربة الخيل لمعالجة الأبقار في صاليما. وبعمر الثانية عشرة نقلني والدي إلى مدرسة «الآي سي». أتذكر أنني ذهبت بسروال قصير فضحك علي التلامذة «قدّ الجحش ولابس شورت». تطاولوا عليّ بعدما كنت الزعيم في مدرسة برمانا. فضربتهم. وطردت. تدخل صائب سلام وكميل شمعون حتى عدت».
جبهة النهضة العربية
نعود لسؤاله، ما الذي دفعك إلى حفظ مخطوطات وتراث أحد أجدادك؟ يجيب «أنا وطني. هل تعرفين ما هي الوطنية؟ مهمة الدولة معرفة المواطن. وعقيدتي النهضة العربية (شارل الشدياق أسس حزب جبهة النهضة العربية)».
نستطرد بسؤال، ماذا عن علاقة أهل البيت بكميل نمر شمعون ولاحقاً بحزب الأحرار؟ «والدي درس مع كميل شمعون في المعهد الأنطوني الذي أسسه ابن عمّ جدي «اللزم» المدبر يوسف الشدياق عام 1906. والدي يقول إن كميل نمر كان أكبر منه بثلاث سنوات لكنه صغّر عمره من مواليد 1900 إلى 1897. كان دونجواناً. والدي لم يعمل في السياسة. وأنا تخرجت من الجامعة عام 1962. دخلت حزب الأحرار ونظمته وأصبحت أمينه العام. ووقتها أردت الدخول إلى عالم السياسة من باب النيابة. ترشحت إلى الانتخابات عام 1972. لكن كميل نمر شمعون وضع ابنه دوري مكاني أميناً عاماً للحزب ووضعني خارجاً. وأخذ على لائحته بيار دكاش. ريمون إده أخذ بدوره على لائحته إدوار حنين فعملت لإيصال حنين بأصواتي». لماذا تصرف شمعون الكبير هكذا؟ يجيب «لأنه كره بيت الشدياق ومن يساعدون الناس. في كل حال سألته عن هذا فأجابني: نكاية بريمون إده. بيار دكاش كان كتلوياً. أخذه وأدخله معه نكاية بريمون».
هل يعقل ذلك بعد كل هذه العلاقة التي يتحدث فيها الشدياق الحفيد بين العائلتين؟ يبتسم قائلاً «أفلس كميل نمر عام 1967 ورهن منزله في السعديات، بعدما اشترى معدات من مال أعطاه إياه الملك حسين، وبدأت الحرب. أفلس. ولم يعد قادراً حتى على تعبئة صفيحة بنزين. أعطاه والدي سيارة «فولز فاكن» هدية ليوفر البنزين فترك «البنتلي» وقاد «فولز». ساعدناه لكنه تخلى عنا».
مآخذ كثيرة لشارل الشدياق و»خبريات» وتأكيد منه «لن أنتخب كميل دوري شمعون المرة المقبلة» لكن فلنعد إلى أحمد فارس الشدياق ومخطوطاته وإرثه «عمي فيليب جمع المخطوطات ونحوز 240 عدداً من جريدة «الجوائب» التي أسسها. وهناك في متحف لندن أربعة أعداد وفي متحف اسطنبول ثلاثة. اهتممت بتاريخ العائلة التراثي والفكري والثقافي. ورثتُ تراثنا وتمسكت به وأحاول نشره. أملك أرشيفاً «ثمنه ملايين». وليس لدي من أورثه إياه. أولادي في الولايات المتحدة الأميركية. وقد أهبه إلى الجامعة الأنطونية».
شهادة مارون عبود
من عمق هذا التراث، ماذا يخبر شارل الشدياق الناس عن أسرار أحمد فارس؟ يجيب «أكثر من فهمه كان مارون عبود وقال عنه: أهم فيلسوف في القرن التاسع عشر. لكن لا تمثال ولو واحد له في لبنان. ومقبرته في الحازميه سرق أحد أعمدتها الرخامية. ويستطرد: كل العائلة أحبته. اعترضت على اعتناق شقيقه أسعد البروتستانتية أما هو فلم يواجه بنفس الاعتراض. ومنذ قتل أسعد توقفنا نحن، آل الشدياق، فترة طويلة عن إقامة جنازات في الكنائس. أصبحنا نقيمها في البيوت. في هذا البيت. وأتذكر أنني يوم زرت البطريرك في بكركي عام 2000 قال لي جاري، وهو قاض يدعى روجيه الشدياق: من قتل أسعد لا نزوره. كان قاضياً متطرفاً».
غريبةٌ هي قصّة الفيلسوف. والأكيد أن لا أحد فهم - أو سيفهم - لماذا حصل ما حصل ولماذا أسلم فارس الشدياق؟ ولماذا قتل أسعد الشدياق؟ وربما قول الفيلسوف سقراط «من صميم الرغبات العميقة تنبثق عادة الكراهية القاتلة» يجعلنا نعتقد أن ما حصل أبعد من كل ما قيل.
نتابع. «شغل الفيلسوف اللبناني منصب وزير التربية في تونس. ويوم أتى سلطان تركيا عبد العزيز في زيارة إلى تونس أعدّ له أحمد فارس شعراً من 2500 بيت. أعجب به وطلب اصطحابه إلى اسطنبول وعيّنه مستشاراً واستمرّ حتى وفاته» ويتذكر شارل الشدياق «في العام 1858 دعا أحمد فارس البطريرك مسعد إلى اسطنبول. وعرّفه إلى السلطان الذي سأله: هل تأمر بشيء؟ أجابه: أتمنى إعفاء المسلمين في لبنان من الخدمة العسكرية في الجيش التركي. سأله عن السبب فأجاب: لأنهم يسيئون معاملتهم. ففعل السلطان ذلك. وجال أحمد فارس معه في كل اسطنبول، على كل كنائسها، فسأله والد البطريرك: لماذا أسلمت يا ابن عمتي؟ أجابه: الدين يا ابن خالي مسعى عند الله. قلّ هذا لمن يسألك عني».
هل كان هذا هروباً آخر من الجواب؟ يجيب الحفيد «كان هذا جواباً مهذباً منه».
مات أحمد فارس في اسطنبول. أراد الأتراك دفنه هناك لكن وصيته كانت العودة إلى الحدث. لكن، أليست جذوره عشقوت لا الحدث؟ يجيب شارل «هو ولد هنا وكبر هنا وإن كانت العائلة تحدرت من حصرون إلى عشقوت إلى الحدث».
لم يأخذ أحمد فارس حقه المعنوي أما مادياً «فعاش ملكاً». وأورث الكثير إلى ابنه سليم. وابنة سليم ورثت خمسين ألف إسترليني. نقلب في المخطوطات في أرجاء دار الشدياق، دار أحمد فارس الشدياق. نقلب بين صفحات جريدة «الجوائب» التي كانت تباع ذات زمن في مصر وتونس وعدن وجبل لبنان وبيروت ويافا والجزائر والإسكندرية والموصل وبغداد. وقبل ان نغادر نقرأ من كتيب: نقل فارس يوسف الشدياق، الملقب بالشيخ أحمد فارس الشدياق - الذي إليه ينتسب بنو الشدياق في حدث بيروت - بعد مماته في باخرة، صعد إليها العلماء يتقدمهم الشيخ عبد الباسط أفندي مفتي المدينة، وأنزل إلى الميناء على زورق من زوارق الحكومة، وسير به إلى الجامع العمري الكبير، وازدحمت الطرق بالجماهير، واستقبلته فرقة من فرسان الجند اللبناني. ودفن في ضريح فخم في أرض في الحازمية، اشتراها ولده سليم.
هذا بعض من قصّة فيلسوف وحفيد فيلسوف من لبنان.
أحمد فارس الشدياق، الهادئ كما الليل في الصفات، الصاخب كما هدير البحر في العمق، الحاسم في التعاطي والمنطق كتب ذات يوم بعضاً من سيرة حياته مقدماً إياها: هذا كتابي للظريف ظريفاً/ طلِق اللسان وللسخيف سخيفاً/ إن شئت تلبسه على علاته/ فاهنأ به أو لا فدعه نظيفاً.