شهاب رئيساً
في هذه الأثناء كان قد وصل إلى لبنان الموفد الأميركي روبرت مورفي على ما أذكر، وكان كمال جنبلاط قد حدّد له موعداً كي يلتقيه في سبلين، وطلب مني مرافقته إلى هذا اللقاء كي أكون قريباً منه لربما اضطرّه الأمر نتيجة ذلك إلى تكليفي بحمل رسالة إلى المعنيين في دمشق.
وهكذا حصل فعلاً، حيث نقلت رسالة من كمال جنبلاط إلى قيادة الجمهورية العربية المتحدة في دمشق يبلغها فيها عن وجود ميل كبير عند مختلف الأفرقاء اللبنانيين إلى انتخاب اللواء الأمير فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وقد أثنى في رسالته على صفات شهاب الوطنية والأخلاقية كما أعرب لهم عن استعداده للعمل من أجل تأمين إجماع وطني على هذا الاقتراح لما يملكه من علاقات مميّزة مع مختلف الفاعليّات السياسية في بيروت وصيدا وطرابلس.
وكذلك ضمّن كمال جنبلاط رسالته هذه خلاصة لقائه بالموفد الأميركي، وموضوع الدعوى التي رفعها لبنان آنذاك إلى مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية المتحدة متهماً إياها بتهريب الأسلحة إلى لبنان وبإثارة القلاقل وإشاعة الفوضى فيه. وفي اليوم نفسه عدت من دمشق إلى المختارة أحمل لكمال جنبلاط جواباً إيجابياً من قيادة الجمهورية العربية المتحدة على اقتراحه.
في تلك الأثناء من العام 1958 كانت ولاية الرئيس كميل شمعون قد اقتربت من نهايتها وبدأت الأمور تنضج لحصول لقاء مهم جداً مع قادة الجمهورية العربية المتحدة في دمشق، حيث أجمع الرأي بين الأقطاب اللبنانيين على أن يمثّلهم كمال جنبلاط في هذا اللقاء. عند هذا الاستحقاق طلب مني كمال جنبلاط مساعدته في ترتيب عملية انتقاله إلى دمشق. فتولّى العقيد أنطوان سعد بطلب من قائد الجيش تأمين الترتيبات في بعض المناطق اللبنانية وتولّيت أنا تأمين ما تبقى من الطريق حتى وصلنا إلى دمشق.
وفي دمشق، سبق الاجتماعات جولة لنا في المعرض الدولي مع قياديين كبار أذكر منهم الأساتذة: أكرم حوراني، ميشال عفلق وصلاح البيطار، وغيرهم من المسؤولين السوريين. وخلال تجوالنا في المعرض استوقفنا الجناح الهندي بعدما سأل أكرم الحوراني كمال جنبلاط عما ينصحهم بشرائه من المعروضات الهندية. أشار عليهم كمال جنبلاط بشراء بعض العبوات الزجاجية التي تحتوي على أنواع من العقاقير، ثم أسهب في شرحه لهم عن فوائدها الصحية. بعد ذلك أخذ بعض العيدان من هذا الجناح وتوجّه للقيادات السورية قائلاً لهم: هذه العيدان تجعلكم تسيطرون على بعض الجموح الجنسي.
وسرعان ما شكّل هذا الأمر مادة لحوار مستفيض بين الحضور بعدما جلسنا في أحد مقاهي المعرض. تمحور الحديث حول قضية الجنس وماهيته.
فأدلى كمال جنبلاط برأيه متأثراً بمقولات بعض المدارس الهندية التي ترى في العملية الجنسية ليست إشباعاً للشهوة، وإنما الإنجاب فقط.
لم يخلُ النقاش في هذا الموضوع من بعض الحدّة، ثم انتهى إلى بعض النكات، وختمه أكرم الحوراني قائلاً: اتركوا كل واحد يعيش حياته، فهناك من يريد ممارسة الجنس للإنجاب فقط وهذا شأن صديقنا كمال بك، وهناك من يريده تنفيساً لاحتقان، كما أنّ هناك من يرى فيه هدفاً بحدِّ ذاته وهذا شأن الكثيرين من الموجودين معنا الذين يمكن أن نسميهم الفريق الشهواني الحيواني، وأيضاً هناك من يرى في الجنس حاجة جسدية شرط ألا تهيمن على عقل الإنسان، فقاطعه كمال جنبلاط قائلاً: ليس فقط على عقل الإنسان وإنما أيضاً على حواسِّه.
في ليل ذاك اليوم عقدنا في دمشق اجتماعات مكثفة حضرها مسؤولون من القاهرة تم الاتفاق فيها على أن يكون اللواء فؤاد شهاب الرئيس المقبل للجمهورية اللبنانية. وعندما عدنا إلى لبنان كلّفني كمال جنبلاط إبلاغ جان عزيز بالأمر كما كلّف آخرين إبلاغ ما تم الاتفاق عليه في دمشق إلى كل المعنيين في بيروت وطرابلس وصيدا. وبعد ذلك انعقد المجلس النيابي وانتخب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
جنبلاط شهيداً
بعد عودتنا من القاهرة في أوائل العام 1977، كانت «قوات الرّدع العربية» التي أُرسلت إلى لبنان بقرار من «قمّة الرياض» السداسية قد انتشرت على الأرض وأمّنت وقف القتال وبدأت السيطرة على الوضع الأمني في البلاد.
قرّر كمال جنبلاط ونحن معه أن نتعامل بإيجابية مع الواقع الجديد. في هذه الأثناء طلبت «قوات الردع العربية» من «الحزب التقدمي الإشتراكي» ومن «الحركة الوطنية» تسليمها ما لديهم من أسلحة، وحدّدت لهم «المدينة الرياضية» في بيروت مكاناً لتجميع تلك الأسلحة. فقمنا في حينه بتسليم بضعة أطنان من الأسلحة إلى القوات السورية العاملة في إطار «قوات الردع العربية». لقد استجاب كمال جنبلاط وكذلك أطراف «الحركة الوطنية اللبنانية» وبدون تردّد إلى كلّ ما طُلب منهم من قبل «قوات الردع العربية».
تكرّرت في تلك المرحلة زيارات كمال جنبلاط إلى منزلي، حيث كان يرافقه أحياناً اللواء شوكت شقير، فشكّلت لقاءاتنا في تلك الظروف مناسبة لمناقشة الأوضاع في البلاد وتقويم مواقفنا السابقة، ومراراً توقّفنا عند الأخطاء التي ارتكبناها في إدارة الأمور وتوقّفنا خاصةً عند تمادي الموقف الفلسطيني في ملف السياسة اللبنانية حيث كان للقيادة الفلسطينية لعبتها وأهدافها...
كان كمال جنبلاط يغتاظ كثيراً من التنظيرات والمقولات التي كانت تطلقها بعض القيادات الفلسطينية خاصة الليبرالية منها، حيث بالغوا في القول إنّ الجانب الفلسطيني لم يدخل الحرب في لبنان إلا مسايرةً لكمال جنبلاط ودعماً له كي يتسلّم السلطة فيه. تلك المقولات أزعجت جنبلاط جدّاً وكان يعلّق عليها قائلاً: «شو هؤلاء لا يفهمون قراءة الأوضاع؟ هؤلاء لا يسمعون من جماعتهم عن حقيقة الأمور؟».
بعد «القمّة العربية» في الرياض تقرّر عقد جلسة «للمجلس الوطني الفلسطيني» في القاهرة في العام 1977. وكان للعديد من قيادات «الحركة الوطنية اللبنانية» تحفّظاتهم على مواقف القيادة الفلسطينية التي تخلّت عن كمال جنبلاط في «القمّة العربية» في الرياض والتي رفضت حتى مرافقته لياسر عرفات إلى هذه القمّة من أجل القيام بمسعى لإعادة ترتيب العلاقات بينه وبين الرئيس حافظ الأسد. وكذلك بسبب عدم توجيه الدعوة إليه لحضور اجتماع «المجلس الوطني الفلسطيني» في القاهرة.
وذات مساء من تلك الأيام، اتّصل بي كمال جنبلاط من المختارة وقال لي إنّ أبا صالح (فتح) وجورج حاوي ومحسن إبراهيم موجودون عنده ويطلبون منه ويصرّون عليه التوجه إلى القاهرة لحضور اجتماعات «المجلس الوطني الفلسطيني»، وإنه يريدني أن أرافقه في هذه الرحلة. فأبلغته استعدادي وموافقتي على مرافقته إلى القاهرة.
وفي اليوم التالي اتّصل بي صباحاً وقال لي: «ما هي الجدوى برأيك من حضورنا اجتماع «المجلس الوطني الفلسطيني» وماذا سنقول فيه وبما سنتحدث بعد هذا الوضع المأسوي الذي وصلنا إليه؟». بعد التداول بالأمر معه عبر الهاتف وبعدما أشرتُ عليه بأنّ ذهابنا إلى القاهرة قد يكون فرصة لنا لإجراء اتصالات ببعض القوى والأطراف لمعرفة حقيقة المواقف السياسية لبعض الجهات الخارجية المعنية بالملف اللبناني، ما يساعدنا على اتخاذ الموقف المناسب في الداخل اللبناني، قال: «لم أقتنع بما تقوله لي». ثم تابع وقال: «على أية حال أنا عندي الكثير من المشاكل هنا وعليّ أن أحلّها». فقلت له: «إذن، سأذهب إلى البقاع»، فقال لي: «وأنا سأكون بانتظارك في المختارة، آمل أن تزورني في طريق العودة من البقاع لأنني أحتاجك لأمرٍ هام».
وفي طريق العودة من البقاع، وبينما كنت استمع إلى نشرة الأخبار من إذاعة «مونتي كارلو» في السيارة، إذ بالمذيع يقطع برنامجه فوراً ويذيع نبأ اغتيال كمال جنبلاط. كان ذلك في 16 آذار 1977.