نوال نصر

قريدس ولقز وسرغوس وجبل نفايات و"قندهار"

أطفأتْ مدينتي قنديلها على ليلٍ وتلوّثٍ وسواد!

19 آب 2019

01 : 17

هنا سوق السمك اللبناني
فلنسدّ أنوفنا قبل أن نخطو نحو ساحل المتن الشمالي الملوث. فلننسَ لبنان "قطعة سما" وديع الصافي و"وطن" فيروز وصباح "يا لبنان دخل ترابك"، و"عم بحلمك يا حلم يا لبنان" ماجدة الرومي، و"راجع راجع يتعمر راجع لبنان" زكي ناصيف... فلننسَ كل ما سمعناه عن لبنان الجميل وما حفظناه عن بيروت أم الدنيا كي لا نُصاب، حين نرى ما رأيناه، بالقهر الكبير!



ننام ونستيقظ على سيمفونية مطامر الـ"كوستابرافا" والناعمة وبرج حمود واستراتيجيات إدارة ملف النفايات في لبنان الذي يُشبه "منخلاً" فارغاً إلا من رواسب معلقة نتنة.

كوستابرافا؟ هي منطقة ساح فيها كثيرون في إسبانيا.

الكرنتينا؟ هي حارة من حارات جدة، في المملكة العربية السعودية، التاريخية.

يخلق الله من الشبه، في الأسماءِ، أربعين. لكن، شتان ما بين الإسم والمضمون. الرائحة وحدها تدلّ الى الكرنتينا "بلا جميلة" تكنولوجيات هذا العصر وإرسال "اللوكيشن" واللحاق "بخريطة غوغل". الرائحة الكريهة المنبعثة في أجواءِ ساحل المتن الشمالي بين موقعي الكرنتينا والدورة تشي أننا بلغنا البقعة الأكثر تلوثاً في لبنان.

عرب المسلخ

هنا نشعر، وبصدقٍ كبير، أننا في ما يُشبه قندهار. فالكلامُ ممنوع والتصوير ممنوع والعيون تلاحقنا، مثل الظلّ، ودراجات نارية تظهر فجأة وشعور داخلي عارم بأننا في خطر. شابٌ من عربِ المسلخ يدنو بدراجتِهِ من مركبتنا. ماذا تريدون؟ وقبل أن يتلقى الجواب يدعونا الى اللحاق به لتبيان حجم التلوث في المحيط أكثر. يقودنا أحمد، إبن عرب المسلخ، الى موقعة "سوكومي". يتوقف. نقف. يدعونا الى تنشق الرائحة. نحاول. عبثاً. ما عدنا قادرين على التنشق. فهل فقدنا حاسة الشمّ؟ لا، إعتدتم عليها. يُطمئننا أحمد. الشاحنات كثيرة. هنا يفرزون النفايات ويرسلونها الى المطامر. شركة المرسيدس لها فرع قريب. شركات نفط، غاز وبنزين، تتمدد على طول الساحل المتني: "يوني غاز" و"غاز أوريان" و"كورال" و"موصللي" و"شماس" و"مدكو"... إسم جهاد العرب (مالك شركة الجهاد للمقاولات) يتكرر على لسان إبن عرب المسلخ وهو يُحلل كيفية توزيع الحصص بين السياسيين في لبنان: سوق السمك للرئيس نبيه بري، المسلخ كان لعربِ المسلخ، المحرقة للرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط ويستطرد: وعدنا أحمد الحريري بتوظيف مئة شاب من عرب المسلخ ولم يفِ. جهاد العرب وعدنا أيضاً ولم يفِ...

ليسوا عرب المسلخ وحدهم من وُعدوا. لبنان كله وُعد من كلِ المسؤولين والزعماء والرؤساء بالأمن والأمان والكهرباء والمياه والحياة. نحاول أن نهدئ من روع ابن عرب المسلخ. تشتدُّ زحمة الشاحنات المحملة نفايات. نقترب من رجلٍ جالس أمام شركة في الجوار ومن دون أن نسأله شيئاً يرمي سيولاً من الشتائم على الدولة و"إما وبيا" مردداً: إنهم يغشون حتى بالنفايات يبيعون الشاحنة ملغومة بالحجارة.

فقدوا باكراً حاسة الشم



إبتسموا...

أراضٍ كثيرة معروضة للبيع. المحال مقفلة. وبيروت غير بيروت. عائلات يونانية كثيرة كانت تسكن في هذه البقعة المتكئة على "شطّ البحر" بين الكرنتينا والدورة. وصلت إمرأة تضع كمامة على أنفِها واشترت قارورة غاز. سعر القارورة زنة عشرة كيلوغرامات 13 ألفاً و250 ليرة. رجل كبر في هذه البقعة البيروتية يُخبر: كانوا يطلقون على هذه الأرض منطقة ميموزا. كانت منطقة صناعية. وكان يسكنها بيت بو غنام وشديد... عرب المسلخ كانوا يعيشون في محيط المستشفى الحكومي. وانتشر التلوث تدريجياً والسموم أصابتنا بأمراضٍ جمة. عيناي فقدتا 80 في المئة من قوتهما والدكتور شرفان (الإختصاصي في شبكة العين الدكتور جورج شرفان) قال لي: سيبقى العلاج بلا فائدة ما دمت تعيش في هذه البقعة.

“Smile you are in front of the camera”

إبتسم أنت أمام الكاميرا.... المصور "بانوس" وضع هذه العبارة أمام باب مقفل. نحاول أن نعمل بنصيحته. عبثاً. أوساخٌ تتراكم وحجارة من زمن الحرب و"خربشات" على الجدران: "إن سوريا لن تدع المؤامرة تمرّ على أرض لبنان". نبتسم؟ نحزن؟ نتذكر أن إحدى مصائبنا في لبنان هي سوريا.

هناك دباغات في الجوار. يهمس أحدهم. ينهره ثان: أصمت "بلا كترة حكي". يبتسمان لبعضهما مرددين بأصواتٍ خافتة: السكوت في موضوع تلوث هذه البقعة من ألماس. بولا يعقوبيان أتت. صرخت. وغادرت. إبنة ميشال عون (رئيس الجمهورية) كلودين أتت. طالبت. وغادرت. هناك أقوياء وأقوى من الأقوياء ولا نحن ولا أنتِ ولا من هم أقوى منا ومنكِ سيتمكنون من إنهاء مسببات التلوث. الأقوياء مصدر تلوث.

من شباب عرب المسلخ



للدباغة...


نركن سيارتنا جانباً ونمشي. ثمة "آرمة" دباغة : مقبل للدباغة. نقرع الجرس. ننتظر. ثمة عمل في الداخل. ثمة أضواء. ثمة ضجيج. نقرع مجدداً. ننتظر طويلاً. عبثاً. هنا، في هذا الشارع كانت الدباغات كثيرة. هنا، كانت جلود الماعز والأبقار في كل مكان، مكومة تحت عين الشمس، تنظف، تملح، وتُصدّر الى مصر والصين. ثمة تجار صينيون يقصدون هذه البقعة لاستيراد الجلود. اليوم، قلّ هذا المشهد وباتت عمليات السلخ والتمليح والتنظيف تجري وراء الجدران. هناك معامل "مصارين" أيضاً في الجوار. تُستورد من أستراليا ونيوزيلندا، تنظف، تملح، توضب، وتُرسل الى ألمانيا.

هذه المحال تظهر فجأة وتختفي فجأة. هي "هيبة الدولة" فعلت فعلها؟ هي "الهيبة" لكن منقوصة!

"منطقة الخضر". هذه هي تسمية البقعة الأكثر تلوثا في بيروت. آرمات كثيرة تُحدد المكان. سوق السمك يطل على عشرات اليخوت القابعة عند أقدام جبل النفايات في برج حمود. هنا المنطقة رقم 1 شارع 56، وقرار قديم مذيّل بتوقيع المديرية العامة للنقل البري والبحري يقول: "ممنوع دخول أي زورق الى المرفأ وخصوصاً زوارق النزهة والسياحة بدون موافقة رئاسة مرفأ بيروت ونقابة صيادي الأسماك في بيروت وضواحيها". خطآن في الآرمة: مرفأ كتب "مرفاء" والعامة كتبت "العامل". خطأ ثالث تمثل في رسو عشرات المراكب المخلعة في المرفأ رغماً عن القرار. والخطأ الأكبر وجود سوق سمك عند أقدام جبل النفايات. تعاونية أصحاب المراكب والصيادين المحترفين في ساحل جبل لبنان هنا. تعاونية صيادي الأسماك في ساحل المتن الشمالي والكرنتينا أيضاً هنا بموجب قرار رقم 46/2 تاريخ 1997. لكن، يبدو المكان على الرغم من كثرة الآرمات، شاغراً.


شاحنات تذهب وتجيء على وقع الثواني


القريدس بلدي

صيادٌ يجلس في جوار مركبه يُخبر: المكان ينغل صباحاً بعشرات الصيادين والمواطنين، ومحبي مختلف أنواع السمك. الساعة السابعة والنصف صباحاً يبدأ المزاد. كيلوان اثنان من سمك التونا بيعا أمس بستين ألف ليرة. سمكة الحداد موجودة هنا. سمك السرغوس والبلاميدا والطرخون وابو سن موجود بكثرة أيضاً هنا. والسمك الأغلى ثمناً الذي يخرج من هذه البقعة الأكثر تلوثاً هو اللقز الرملي. بيعت سمكة وزن سبعة كيلوغرامات في المزاد العلني بأربعين ألف ليرة. وبيع كيلو السلطان ابراهيم بثمانين ألفاً. والقريدس جمبو بأربعين ألفاً. ويستطرد: السوق مليء بالقريدس الإيراني والتركي أما القريدس الطازج فلا تجدونه إلا هنا. ننظر الى فوق. الى جبل النفايات المحاذي فنشعر، للمرة الأولى، بولاء الى ما هو غير لبناني.

التصوير ممنوع إلا بإذنٍ من القوى الأمنية في المرفأ. وأعطي الصيادون شيفرات ورموزاً معينة "كودات" ينزلون بموجبها الى البحر ويخرجون منه. الصياد ماريو مثلاً يحمل الرقم 60. ويوجد 400 صياد يسترزقون في محيط جبل نفايات برج حمود.

ليس بعيداً كثيراً عن سوق السمك سوق سمك آخر في المؤسسة العامة للأسواق الإستهلاكية. هنا الأرض واسعة شاسعة وهنا سيقام إبتداء من الأحد المقبل، أول سبت وأحد من الأسبوع الأول من آب، سوق الأحد. نقصد نهر بيروت. ثمة مجارير تصب. ثمة بقع سوداء ونفايات. ثمة روائح. ما هذه الكماشة حول بيروت؟ لماذا كلّ هذا الكمّ من التلوث في بقعة يفترض أن تكون ضفة جميلة لعاصمة طالما قيل أنها "ست الدنيا"؟

نعود أدراجنا. فيروز تغني. صوتُها يخرج من المذياع لكنه حزين: «أطفأت مدينتي قنديلها، أغلقت بابها، أصبحت في المسا وحدها".


MISS 3