صالح المشنوق

500 ألف صوت مغترب

ماذا لو صوّت في الانتخابات النيابيّة المقبلة في لبنان 500 ألف لبناني مغترب؟


لا شكّ أن التغيير الاستراتيجي الذي شهده لبنان على مستوى السلطة التنفيذيّة، والمتجسّد بانتخاب رئيس جمهوريّة وتسمية رئيس حكومة من خارج تحالف المافيا والميليشيا الذي حكم لبنان في العقد الذي سبق الانهيار الشامل، لن يتمكّن من نقل لبنان من واقع إلى آخر من دون أن يكون مستنداً إلى واقع نيابي تنتجه الانتخابات المقبلة التي ستحصل بعد عام من اليوم.


ولكن هذا التغيير الجذري لا يمكنه - وفق المعطيات العلمية والرقمية الدقيقة - أن ينتج عن ديناميكيات داخليّة صرفة، تحدث نتيجة تغيير في رأي الناخبين أو دخول ناخبين جدد على المعادلة الانتخابيّة. فعلى عكس الشائع، فإن الشعب اللبناني هو من أكثر الشعوب عالمياً التي تشارك في الانتخابات النيابيّة. يتحدّث الكثير من الدراسات عن مشاركة 49 % من اللبنانيين في الانتخابات النيابية الأخيرة، ويُستنتج من هذا الرقم أن أغلبيّة اللبنانيين لا يقترعون. ومع أن رقم الـ 49 % صحيح، إلا أنه مضلّل، لأنه يعكس نسبة اللبنانيين - المقيمين والمغتربين - الذين شاركوا في الانتخابات ( 1.951.683 من أصل 3.967.508). أما نسبة المقترعين من المقيمين حصراً، فهو حوالى 73 %، وهو أعلى من معدّل الدول المتطوّرة (69 % لمجموعة OECD) ولا يختلف كثيراً عن الدول التي فيها أعلى نسب اقتراع في العالم المتقدّم كالدانمارك (76 %) وبلجيكا (77 %).


لا شك أن لبنان "يتمتّع" (إن صح التعبير) بواحدة من أعلى نسب الاغتراب في العالم. بعيداً من وهم أن هناك 15 مليون لبناني موزّعين في كل أصقاع العالم، ومع أن لبنان الرسمي لا يملك أرقاماً دقيقة ومنشورة حول عدد المغتربين، إلا أن التقديرات الجديّة، المستندة إلى تقاطع مصادر عدّة، تشير إلى أن عدد اللبنانيين المسجّلين على لوائح الشطب الانتخابيّة يتراوح ما بين 1.5 و 1.7 مليون لبنانية ولبناني. هذا الرقم يمكن استنتاجه من عدد الوافدين من المغتربين إلى لبنان في العام 2022 (62 % من 2.2 مليون وافد حسب وزارة السياحة) إضافة إلى حجم التحويلات المالية من الاغتراب إلى الداخل اللبناني (7.5 مليارات دولار سنوياً  بمعدّل 500 دولار للفرد). كما تشير مؤسسة الدولية للمعلومات إلى أن 621 الف لبناني هاجروا من لبنان بين عامي 2012 و 2023 فقط. وفق تقاطع هذه المعطيات، فإن حوالى 37 % من الناخبين اللبنانيين يعيشون خارج لبنان، وهو رقم لا مثيل له (معلن) في العالم: تشير الدراسات إلى أن البوسنة والهرسك هي أعلى دولة وفق نسب الاغتراب حيث بلغت 30 % من مجمل المواطنين في تلك الدولة (بالمقارنة، 2.9 % من الفرنسيين و 5.77 % من الإسبان مغتربين).


صوّت في الانتخابات النيابية الأخيرة 141 ألف ناخب مغترب (من أصل 225 ألفاً سجلوا أنفسهم للمشاركة)، أي أن نسبة الأصوات الاغترابية لم تتجاوز 7.2 % من مجموع المقترعين. كما أنّه ضئيل جداً نسبة لعدد المغتربين اللبنانيين المسجلين على لوائح الشطب الانتخابية: إن قدّرنا عدد هؤلاء بـ 1.5 مليون شخص، فإن نسبة الذين اقترعوا منهم لا تتجاوز الـ 9.4 % (مقارنة بـ 73 % في الداخل اللبناني). ومع أن تجارب الدول الأخرى تشير إلى فارق كبير جداً بين نسبة المقترعين المقيمين في بلادهم ونسبة المقترعين المغتربين، إلا أن الفارق في لبنان مختلف جذرياً عن تلك الدول: في العام 2023 صوّت 50 % من الأتراك المغتربين في الانتخابات الرئاسية مقابل 85 % من المقيمين.


إن رفع نسبة اقتراع المغترين ليس فقط ضرورة لعملية أكثر ديمقراطيّة، إنه أيضاً عامل أساسي في مسار التغيير السياسي في لبنان. فإن قارنا نسب اقتراع المقيمين (الأكثر عرضة للزبانية والترهيب والمال السياسي الخ) لمرشّحي المافيا والميليشيا بنسب اقتراع المغتربين لهؤلاء، نجد الفرق شاسعاً (أكثر من 50 % من المغتربين صوتوا للمجموعات والأحزاب التي أيّدت ثورة 17 تشرين، مقابل أقل من 20 % من المقيمين).


اذاً ما العمل؟ على وزارتي الخارجيّة والداخلية العمل فوراً على تقديم كلّ الاقتراحات التي تشجّع المغتربين على الاقتراع في العام المقبل، وأهمّها (على الإطلاق) السماح للمغتربين بالتسجيل للانتخابات قبل شهر (كحد أقصى) بدلاً من المهلة الحالية (6 أشهر!)، والتي تشكّل (ولو عن غير قصد) شكلاً من أشكال "قمع الصوت" (voter suppression). فقد عملت عدّة دول ومنها إيطاليا على تقصير المدّة الفاصلة بين التسجيل للانتخابات، وكان لذلك أثر استثنائي على نسب المشاركة (الحكومة الإيطالية تدفع أيضا 75 % من سعر تذكرة السفر للمغتربين الذين لا يوجد بالقرب منهم سفارة أو قنصلية يصوّتون فيها والذين يرغبون بالعودة إلى بلدهم للاقتراع). كما على المجلس النيابي إلغاء "حصّة" النواب الستّة للاغتراب، أو التمثّل بالدول القليلة المتقدّمة (فرنسا، إيطاليا الخ) التي تمنح مغتربيها عدد مقاعد نيابية يعكس حجمها الفعلي نسبة لإجمالي المواطنين (في لبنان 37 % أي 28 مقعداً نيابياً!).


يعتمد لبنان (للأسف) على مغتربيه - خصوصاً الذين هجّروا قسراً في العقد الأخير - لإنعاش اقتصاده، إن من جهة التحويلات المالية أو من جهة ما نسمّيه زوراً "سياحة"، وهو في الواقع زيارة المغتربين لأهلهم في لبنان في عطلة الأعياد. لكن حاجة لبنان الفعلية بالنسبة لهؤلاء هي في إحداث التغيير النيابي المطلوب، الذي وحده ينتج عنه دولة فعلية تعيدهم يوماً ما إلى حيث يريدون أن يكونوا.