"هيك منعيش"... كلمتان تختصران حال أمّة بكاملها، تحملان تفريغاً جماعياً للغضب، تُعلنان من دون خجل، هزيمةً جماعية نُردّدها بفخر، كأن في الانكسار بطولة.
لم تعد الفوضى في لبنان مجرّد خلل في النظام، لقد أصبحت النظام وبتنا نعيش داخل ثقافة كاملة، حيث التفلّت شطارة، والانهيار صمود، والاستسلام "ذكاء لبناني". سائق يقطع الإشارة المرورية فيرفع شارة النصر. مواطن يُهان يومياً على أبواب المصارف، ويعود ليقول: "يلا، المهم بعدنا عايشين". انفجار يُسوّى بـ "بوست" على "فيسبوك"، ويُنسى "ببطانية" مساعدات.
في دول تحترم شعبها، تُعدّ الفوضى وصمة. في لبنان، الفوضى نمط حياة. "كهربا الإشتراك" فخر، المياه "بالغالون" إنجاز. الدواء بالتهريب "مرونة شعب". نُبدع في الالتفاف على القانون، ونتباهى بذلك كأننا اخترعنا البارود. نعيش على هامش الدولة، ونسميه نجاحاً لبنانياً.
لكن من قال إن التعايش مع الخراب بطولة؟ ومن قرر أن التدبير انتصار؟ نحن لا "ندبّر حالنا"، نحن نُنتَزع من إنسانيتنا كل يوم ونبتسم للكاميرا وجعلنا من هذه الابتسامة هوية وطنية.
تحت شعار "هيك منعيش"، اختُطفت الوطنية، تحوّلت من مشروع بناء إلى أفيونٍ جماعي. الدولة لم تعد مرجعاً، بل كوميديا سوداء. المؤسسات مرقّعة. القانون هشّ. والعدالة مؤجلة حتى إشعار آخر. من يحكم؟ الفوضى. من يحمي؟ المافيا. من يُحاسَب؟ لا أحد.
كل شيء موزّع ومحسوب: الطرقات بين الزعران، المرافق بين الزعماء، الوظائف بين الطوائف. والناس؟ الناس يتكيّفون. يختنقون ولا يصرخون. ينامون على أصوات المولدات، ويصحون على أخبار الدولار، ويمضون يومهم في طوابير الذلّ ودوائر العجز، ثم يهمسون لبعضهم: "ماشي الحال".
لا، ليس الحال ماشي. الحال ميت، ونحن نرقص على جثته.
الإعلام يروّج للبقاء كأنه إنجاز. الإعلانات تلمّع الانهيار كشكل من أشكال الصمود. المسلسلات تحتفي بالـ "فهلوية" على حساب القانون. الأغاني تُمجّد المواطن الذي "بيضحك رغم كل شي" كأنها ميزة، لا نتيجة تكيّف مرّ مع واقع لا يُطاق. بتنا نُغنّي لأننا عاجزون عن الصراخ.
هنا الجريمة الأخطر... تطبيع الفوضى. أصبحنا نعيش على الحافة ونقتنع أن الحافة بيتنا. نرفض الدولة ثم نتساءل: لماذا لا تحمينا؟ نُسقط المؤسسات ثم نشتكي من غيابها. إنها حلقة جهنمية، نُديمها، ونلصقها بالظروف".
الحل؟ لا يبدأ من تغيير وزير، بل من كسر المرآة. من اغتيال هذه الجملة القاتلة: "هيك منعيش". من طرح السؤال الذي نخشاه جميعاً: لماذا نعيش هكذا؟ ومن قرر أن هذه الحياة تليق بنا؟
الوطنية ليست القدرة على تحمل العذاب، ليست مهارة التأقلم مع الفشل. الوطنية فعل مواجهة، لا فعل مراوغة. فإذا أردنا وطناً، علينا أولاً أن نرفض الفخر الزائف بقدرتنا على النجاة، ونطالب بحقنا في أن نحيا بكرامة، لا أن نتنفس على الهامش.
كفانا مديحاً للخراب.
كفانا اعتذاراً عن حقوقنا.
كفانا "هيك منعيش".
نحن نستحق أفضل. ولن نبدأ الحياة الحقيقية إلا حين نكفّ عن اعتبار العيش في الفوضى بطولة، ونبدأ باعتبارها الجريمة التي لن نغفرها.