كارين القسيس

لبنان على حافة التحول: "الكبسات" تُشعل فتيل الإصلاح

لطالما اعتاد اللبنانيون على مشهد الدولة الغائبة، أو بالأحرى، المتغاضية عمداً عن محاسبة الفساد المستشري في مؤسساتها. لسنوات، كانت الدوائر الرسمية بمثابة مساحاتٍ محصّنة ضد الرقابة، أشبه بجزرٍ مستقلّة تُدار وفق منطق الزبائنية والمحسوبيات، لا وفق القانون والمساءلة. فأن يقوم مسؤول بزيارة مفاجئة، أو بما يُعرف بـ"الكبسة"، على مؤسسة عامة، كان يُعدّ استثناءً نادراً، وربما استعراضاً.


لكن، مؤخراً، طرأت مؤشرات مختلفة على هذا المشهد التقليدي. فوزير الخارجية، جو رجّي، لم يكتفِ بالتصريحات، بل ترجم أقواله أفعالاً، حين قام بزيارة مفاجئة لتفقّد الموظفين وسير العمل. لم تمرّ هذه الخطوة مرور الكرام، إذ لحقتها "كبسة" أخرى ذات رمزية أقوى، قام بها رئيس الجمهورية، جوزاف عون، على مراكز حسّاسة كـ"النافعة" ومرفأ بيروت - أماكن لطالما كانت بؤراً للفوضى والصفقات.


هذه التحركات، وإن كانت محدودة حتى الآن، تفتح الباب أمام تساؤل جوهري: هل نشهد بداية تحوّل فعلي في سلوك الدولة تجاه مؤسساتها؟ أم أنها مجرّد رسائل ظرفية سرعان ما تخبو تحت ثقل النظام القائم؟ في الحالتين، يبقى الأكيد أنّ ما حصل لم يكن مألوفاً في العقود السابقة، وأن المواطن اللبناني، المتعطّش للعدل والمحاسبة، بدأ يلمح بصيصاً من دولةٍ لم يكن يراها إلاّ على الورق.


لم تمرّ التحركات الأخيرة للسلطة مرور الكرام، بل فجّرت تفاعلاً واسعاً على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وسط سيلٍ من التحليلات والتكهنات. ففي حين رأى البعض في هذه التحركات بادرةً إلى نهجٍ جديد في الحكم، اعتبرها آخرون مجرد محاولة يائسة لامتصاص غضب الشارع وتلميع صورة سلطة فقدت الكثير من رصيدها الشعبي.


صحيفة "نداء الوطن" اختارت ألا تكتفي بالتحليل، بل نزلت إلى الميدان وسألت المواطنين مباشرةً، لتكتشف مفارقةً لافتة: فرغم الإحباط العميق والتشكيك المزمن الذي يعاني منه المواطن اللبناني، تفاعل الشارع بشكل إيجابي مع هذه الخطوات، وشعر، ولو بشكل خجول، أن الدولة بدأت تعيد فرض هيبتها، حتى وإن كان ذلك جزئياً.


عدد من المواطنين تحدّثوا عن شعورٍ نادرٍ افتقدوه طويلاً: الإحساس بالمسؤولية والانضباط. وعبّر بعضهم عن قناعة مفادها أنّ وجود مسؤولين على الأرض، ولو ليوم واحد فقط، كفيلٌ بردع المخالفين وبثّ نوعٍ من الهيبة التي غابت طويلاً. الإحساس بأن "هناك من يراقب"، وأن القانون بدأ يتحرك، حتى لو بخطوات متواضعة، كان كافياً ليزرع بذور أملٍ في إمكانية بناء دولةٍ فعلية، في حال وُجدت الإرادة.



من الغيبوبة إلى المبادرة

في المقابل، استعاد بعض المواطنين مشاهد مخيبة من الماضي القريب، أبرزها زيارة الرئيس السابق ميشال عون إلى مرفأ بيروت عقب انفجار 4 آب، والتي بدت، بالنسبة لكثيرين، خالية من أي مضمون فعلي، بل مثّلت استمراراً لنهج اللامبالاة السياسي. ومن هنا، برزت المقارنة مع زيارة الرئيس الحالي إلى المرفأ، والتي اعتُبرت من قِبل البعض محاولة جدّية لوضع اليد على مكامن الخلل والانطلاق نحو إصلاح فعلي.


مع ذلك، يبقى الأمل في بداياته، وقد تكون هذه التحركات الجديدة نواة لتحوّلٍ حقيقي، إذا أُخذت بالاعتبار، حيث يمكن أن تشكّل بدايةً لاستعادة هيبة الدولة من خلال إصلاحات حقيقية، طالما سعت الدولة إلى الشفافية والمحاسبة، وليس إلى مجرّد الاستعراض الإعلامي الذي كانت قد اعتادت عليه سابقاً.