تواصل المقاتلات الأميركية غاراتها المؤلمة على مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن منذ منتصف آذار الفائت، وهي أضحت شبه يومية في الأيام الأخيرة، وتكاد تتخذ طابع الحرب الشاملة على جماعة "أنصار الله"، التي تعتبر الذراع الأبرز المتبقي على قيد الحياة في جعبة طهران.
فالطائرات الأميركية التي ألقت حممها على مئات الأهداف والمواقع والمنشآت الحوثية، في ضربات وُصفت بالعنيفة والدقيقة في آن، لم توفر بعض المدنيين اليمنيين، إلّا أنها طالت رؤوساً حوثية كبيرة من الصف الأوّل ولم تقتصر فقط على المسؤولين من الصف الثاني والثالث، بيد أن الحوثيين يحرصون على إخفاء خسائرهم الكبيرة وانتهاج "سياسة التعمية" على الجمهور اليمني "المقهور"، والظهور في مظهر المنتصر والصامد في وجه "الضربات الترامبية" القاصمة.
اشتباكات خجولة
من نافل القول إن الضربات الشديدة الممهورة بتوقيع الرئيس الأميركي الجديد تختلف عن ضربات سلفه، ففيما اعتمد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن "سياسة الاحتواء" حيال الحوثيين، ووُصفت حربه بالناعمة عليهم وكانت تستهدف منصات الصواريخ والطائرات المسيّرة، انتهج خلفه دونالد ترامب "سياسة الردع" ضدّ "أنصار الله"، فشنّ عليهم ضربات نوعية وبلا قيود أسقطت قادة كباراً في رأس الهرم الحوثي، واستهدفت مدناً كبيرة ملحقةً دماراً مهولاً ببنيتهم التحتية العسكرية، وقد بدت نتائج غارات قاطن البيت الأبيض الجديد جليةً من خلال تراجع منسوب الصواريخ والمسيّرات التي يطلقونها في اتجاه إسرائيل والسفن في البحر الأحمر، وباتت اشتباكاتهم "خجولة"، على عكس واشنطن التي تنتهج استراتيجية شاملة لمواجهتهم، إلى درجة دفعت بترامب إلى التباهي بأن الحوثيين باتوا يستجدون السلام الآن، رغم زعم زعيم "الجماعة" بأن عملياتها المتواصلة أدّت إلى تواري السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب.
وما ساهم في خفض وتيرة الهجمات الحوثية، تراجع امدادات "العرّاب الإيراني" العسكرية لهم، من دون أن تتوقف، فـ "نظام الملالي" منشغل إلى أقصى حدود بمفاوضاته النووية مع "الشيطان الأكبر" المتنقلة بين مسقط وروما، وهو قد يساوم أيضاً على الورقة الحوثية، بعد مساومته أو تخلّيه أو على الأقلّ عدم استماتته في الذود عن أذرعه التي تهاوت تباعاً في لبنان وغزة وسوريا تحت وطأة الحرب الإسرائيلية الضروس، وهادنت في العراق درءاً لتجرّعها الكأس المُرّة في "بلاد الرافدين" أيضاً.
حسابات استراتيجية دقيقة
لا شك في أن قائد سفينة "العمّ سام" يرنو بطبيعة الحال إلى إسكات النيران الحوثية في المنطقة ووضع حدّ لتهديدها الملاحة البحرية والأراضي الإسرائيلية، إلّا أنه بضرباته على "أنصار الله" يصبو في الوقت عينه إلى الضغط على "إيران النووية" وإخضاعها لشروطه، بعدما نجح في مرحلة أولى في إجلاسها إلى طاولة المفاوضات في الأشهر الثلاثة الأولى من ولايته.
وبدا لافتاً في الحملة العسكرية الجوية الأميركية على الحوثيين اعتماد واشنطن على تل أبيب للتزوّد بالمعلومات الاستخباراتية، فالدولة العبرية أوجدت بيئة مناسبة لنشاطها الاستخباراتي في اليمن، خصوصاً في أعقاب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، نظراً للخطر الإيراني المتسلّل إليها من هناك عبر الذراع الحوثي، كما أن إسرائيل أظهرت في حروبها الأخيرة على لبنان وغزة وسوريا تفوّقاً استخباراتياً كبيراً وتقدّماً تكنولوجياً، أثارا إعجاب الولايات المتحدة التي باتت تستفيد من خبرات إسرائيل، شقيقتها الصغرى المدلّلة في المنطقة.
ويبقى أن الضربات الجوية الأميركية أوجعت الحوثيين بلا شك حتى الآن، إلّا أنها لن تكون كافية للقضاء عليهم بشكل كامل من دون إشراك قوات الحكومة الشرعية في هذه المواجهة. ولهذا الإشراك حسابات استراتيجية دقيقة، تُبقي في الحسبان الطبيعة الجغرافية الصعبة والقاهرة في اليمن، حيث يتحصّن الحوثيون في المغاور والكهوف والأنفاق، مستفيدين من الطبيعة الجبلية الوعرة، التي لطالما وقفت سدّاً منيعاً في وجه المهاجمين عبر التاريخ.