في "ما بعد الكلمات" (Au-delà des mots)، الرواية الأولى لإليز كيرونيل (Elise Caironel)، تأخذنا الكاتبة إلى قلب حكاية شديدة الخصوصيّة، مبنيّة على تجربة حقيقية، تمسّ الجميع، صامتة ولكنها مدوّية. من خلال مسار ماري، شابة تنتمي إلى بيئة برجوازية مخنوقة بالمظاهر، تسلّط كيرونيل الضوء على موضوع لا يزال مهمّشاً إلى حدّ كبير، إنه العنف النفسي داخل العلاقة الزوجية. ذلك الشكل الخفيّ من السيطرة الذي لا يترك كدمات مرئية، لكنه يجرح في العمق. رواية ضرورية، مؤثرة، مكتوبة بحساسية عالية وتحفّظ راقٍ.
ما يلفت القارئ منذ الصفحات الأولى هو رهافة الأسلوب، إليز كيرونيل لا تكتب بقبضات ولكمات، بل بشفرات رفيعة، بأجواء خافتة، وهمسات تثلج أكثر من الصراخ.
من خلال سرد متناوب بين ماري وشريكها فيليب، تدخلنا في تعقيد علاقة سامة تنهار فيها حدود الحب والسيطرة.
ماري، الإبنة الصغرى لعائلة ثريّة، نشأت في عالم من الصمت، من رموز اجتماعية خانقة، وابتسامات مُعدّة لصور العائلة. تدرك مبكراً أنّ الوجود يعني الطاعة. لا مكان لطموحاتها الفنية، أو حساسيّتها المفرطة، أو عطشها للحريّة في عالم والدَيها. فتصمت، تراقب، تتكيّف. إلى أن تلتقي فيليب.
حب مسموم
يدخل فيليب حياتها كأنّه وعد بالخلاص. مثقّف، جذّاب، يصغي لما لا يودّ أحد سماعه، تنشأ العلاقة بينهما بسرعة، وتتشقّق بسرعة أكبر.
لا تقع إليز كيرونيل في فخّ الكاريكاتور. تنقل لنا الوقائع من منظور شعوري، من دون مبالغة، ولكن بحدة تقشعرّ لها الأبدان، السيطرة لا تأتي فجأة، بل تتسلّل ببطء، تعليقات عابرة، غياب متكرر، نظرات مثقلة، طلبات تتحوّل إلى أوامر، لفتات حنان تتبدّل إلى مراقبة. تبتعد ماري عن أصدقائها، ثم عن عائلتها، ثم عن صوتها الداخلي.
القارئ، كشاهد عاجز، يرى الفخّ يُغلَق شيئاً فشيئاً. يودّ أن يصرخ بماري: اهربي! لكنّه يفهم أيضاً لماذا لا تفعل. لأنّ إليز كيرونيل تكتب بذكاء شعوري نادر يجعل شخصياتها إنسانية إلى أقصى الحدود، ماري ليست ضعيفة ولا ساذجة، هي فقط... عالقة.
شخصية مزعجة بامتياز
ربما يكون فيليب من الشخصيات المزعجة جداً في الأدب الحديث، لا لأنه وحش، بل لأنه ليس كذلك، إنه واقعي، وهذا ما يقلق.
السرد المتناوب يسمح لنا بدخول أعماقه النفسيّة: هو يشكّ، يتعلّق، يبرّر، لا يرى دائماً عنف أفعاله، يكذب على نفسه. ونحن أيضاً نقع في هذا الضباب الأخلاقي الذي تعيشه الضحيّة. يحب، لكنّ حبَّه سام. يريد الطمأنينة، ولكن عبر التملّك. يخلط بين الحب والسيطرة، لا تبرّره كيرونيل، بل توضح كيف تُبنى الهيمنة أيضاً على هشاشة المسيطر.
إتاحة صوت للمعتدي خيار أدبي جريء، لكنّها هنا متمكّنة منه، لا تهدف إلى الموازنة بين الرؤى، بل إلى كشف آلية السيطرة: منطلقاتها، تبريراتها، وعبثيتها.
نساء داعمات
لحسن الحظ، لا تبقى ماري وحيدة. في مسارها المتقلّب، تظهر شخصيتان مضيئتان تسهمان في إعادة بنائها.
أوّلاً، سيسيليا، صاحبة مكتبة صغيرة تعمل فيها ماري. سيسيليا ليست منقذة ولا معالجة نفسية، بل حاضرة ببساطة. تصغي، تلاحظ، تدعم، وتمنح ماري مساحة تنفّس، بديلاً ممكناً، مرآة مشجعة.
ثم تأتي فيوليت، الصديقة، الأخت القلبيّة. بفضلهما، تعيد ماري اكتشاف كلمة "أنا" تعود إلى الحلم، وتوجد من دون إذن أحد.
تصبح الرواية بذلك تحيّة رقيقة لكن عميقة إلى الأخوّة بين النساء، إلى هؤلاء المجهولات اللواتي يمددن اليد في لحظات الشك دون انتظار مقابل.
إعادة بناء رصينة وقوية
ما يميّز هذه الرواية هو غياب الحلول السريعة، لا تشفى ماري بين ليلة وضحاها. لا تصفق الباب وتخرج إلى حرّية مثاليّة. لا. هي تتردد، ترتجف، تعود، تتساءل. لكن كل خطوة تخطوها نحو ذاتها انتصار.
كيرونيل لا تمجّد القطيعة كحلّ سحري، بل تمجّد المسار، تأكيد الذات، شجاعة قول "لا". بعيداً عن قصص الانتقام أو الخلاص المعجزي، ما بعد الكلمات رواية عن التفاصيل اليوميّة، عن نسج تقدير الذات ببطء، عن الغفران الصعب، خصوصاً تجاه الذات.
كتاب نافع بالمعنى العميق
لا بدّ من القول إنّ "ما بعد الكلمات" كتاب نافع، لا من منطلق تعليمي أو وعظي، بل لأنه يشرح، يسلّط الضوء، يمنح الكلمات لما لا يُقال، يمكنه أن يلامس كل من مرّ بعلاقة غامضة، أو تعرّض لتلاعب عاطفي، أو شكّ في قيمته الذاتية. ويمكنه أن يوقظ أيضاً الذين لم يختبروا هذه الوقائع، لكنهم قد يكونون شهوداً، أصدقاء، أو داعمين يوماً ما.
واختيار الرواية كوسيلة لهذا الطرح يعطي الرسالة قوّة إضافية، لأن القارئ يتماهى، يشعر، يشارك، على اعتبار أنّ قصّة ماري قد تكون قصّة أيّ شخص.
الضحية والمعتدي
يمتاز هذا الكتاب بمعالجة دقيقة ومؤثّرة لموضوع العنف النفسي، حيث ينجح في استعراض السيطرة العاطفية للشريك ببراعة نادرة، مبتعداً عن الكليشيهات السائدة ومسلّطاً الضوء على الآثار العميقة وغير المرئيّة لهذا النوع من العنف. ما يضيف إلى قوّته هو السرد المزدوج المتقن، إذ يتناوب بين وجهة نظر الضحيّة، ماري، والمعتدي، فيليب، ما يمنح القصة عمقاً نفسياً وتوتراً داخلياً ملموساً، من دون أن ينزلق إلى تبرير السلوك العنيف.
وتتميز كيرونيل بأسلوبها السلس والعاطفي، حيث تكتب بلغة خالية من الزخرفة لكنها تنفذ إلى القلب، وتعكس صدقاً وشفافية في نقل التجربة الإنسانية. ولا تقتصر براعتها على الشخصيات الرئيسة، بل تشمل أيضاً شخصيات ثانوية مثل سيسيليا وفيوليت، اللتين تجسّدان الأمل والتضامن والشفاء الهادئ، ما يعمّق منسوب الإنسانية في الرواية.
ويأتي الطرح العام للرواية كقيمة مضافة مهمة، إذ تتناول موضوعاً ضرورياً ومفيداً، يساهم في كسر الصمت المحيط بالعنف غير المرئي، خصوصاً داخل الطبقات المرفهة، ويزيد وعي القارئ من دون أن يسقط في فخ الوعظ أو الإرشاد المباشر. ورغم هذه القوّة، فإنّ هناك بعض نقاط الضعف النسبية، منها الإيقاع البطيء الذي قد يشعر به بعض القرّاء، خصوصاً أولئك الذين يفضّلون الأحداث المتسارعة والحبكات المحمومة، وذلك بسبب التركيز على السرد الداخلي المتدرّج. كما قد يرى البعض أنّ النهاية "هادئة" أكثر من اللازم، رغم أنّ الرصانة فيها تعبّر عن اختيار فنّي مدروس. أما فيليب، فإنّ تقديم وجهة نظره بشكل مدروس وإنساني قد يُربك بعض القراء، إذ قد يبدو وكأنه "مفهوم" أكثر من اللازم، رغم حذر الكاتبة في عدم تبريره.
أخيراً، فإنّ اقتصار الرواية على عالم اجتماعي متجانس من البرجوازية المثقّفة قد يشكّل محدوديّة في استكشاف التنوّعات الطبقيّة والاجتماعية الأوسع، ما كان من شأنه أن يعزز تعددية الأصوات والخلفيات.
عمل أول واعد
لرواية أولى، تظهر إليز كيرونيل نضجاً نادراً. لم تسعَ للتأثير أو الإثارة. كتبت نصّاً صادقاً كثيفاً، مؤلماً أحياناً، لكنه دائماً دقيق. قلمها حنون، دقيق، بعيد عن الإطناب. نشعر بأنها تعرف جيداً عمّا تكتب، ربّما لأنها عاشته أو استمعت إليه طويلاً.
كل الأمل أن تستمر هذه الصوتيّة الأدبيّة في التفتّح. لأنّ الكلمات، وإن لم تشفِ كلّ شيء، لكن يمكنها، على الأقل، أن تفتح أبواباً.
من هي إليز كيرونيل؟ إليز كيرونيل كاتبة فرنسية صاعدة، أسرت القرّاء منذ روايتها الأولى "ما بعد الكلمات" الصادرة في كانون الأول من العام 2024. تنحدر من خلفيّة أدبيّة وإنسانيّة، وعملت طويلاً في المجال الجمعيّاتي مع نساء ضحايا العنف، وهو ما ينعكس بقوة في كتاباتها. من خلال شخصياتها، تستكشف كيرونيل تعقيدات الروابط العائلية، وصمت التجارب، وطرق التعافي الفردي. تكتب بتحفّظ، ولكن بحسّ شعوري دقيق. "ما بعد الكلمات" عمل أدبي وشهادة إنسانية في آن. |
* ما بعد الكلمات (Au-delà des mots)، إليز كيرونيل (Elise Caironel)، دار "Imaginary Edge"، 336 صفحة، 2024.