هشام بو ناصيف

انتخابات بيروت: وتبقى الفدراليّة هي الحلّ

غالباً ما أكتب أنّ هذا الأمر أو ذاك بلبنان يثير الضحك لو أنّ أحوالنا تسمح به. أتابع منذ فترة أخبار انتخابات بلديّة بيروت، وأضيفها إلى لائحة باتت طويلة من المضحك – المبكي عندنا. لنفكّر تحديداً باللائحة التي شكّلتها القوى الأساسيّة بالعاصمة وخاضت انتخابات البارحة مدعومة منها. تضمّ اللائحة بصفوفها قوى السلاح الشيعي، وغلاة معارضيه؛ وقوى متورّطة بالفساد للنخاع، وأخرى تقول إنّها بريئة منه؛ وإسلاميّين يمكن الافتراض أنّهم لا يحبّون "النصارى"، و"نصارى" يمكن الافتراض أنّهم بدورهم لا يحبّون الإسلاميّين. بكلمة، تضمّ اللائحة الموقف ونقيضه. لماذا تشكيلها إذاً، مع العلم المسبق أنّ التجانس بين قواها معدوم – وبالحقيقة، مستحيل؟ الجواب: ضرورة الحفاظ على التوازن الوطني، أي انتخاب نصف أعضاء المجلس من المسيحيّين، ونصفه الآخر من المسلمين.



منذ وعيت على السياسة، تتحكّم بانتخابات بلديّة بيروت ديناميكيّات ثلاث هي التالية: 1) هلع يسبق كلّ انتخابات من "فقدان التوازن" بالمجلس البلدي ناتج عن أنّ عدد مسلمي بيروت يفوق عدد مسيحيّيها، وأنّ ممارسة الناخب (والناخبة) لحقّه (وحقّها) بالتشطيب يمكن أن يقصي المسيحيّين عن بلديّة العاصمة. 2) تشكيل لائحة من كلّ القوى الأساسيّة بالعاصمة يكون برنامجها الوحيد، أن صحّت تسميته كذلك، هو "الحفاظ على التوازن". 3) انتخاب مجلس بلدي متوازن طائفيّاً، وعاجز عن الاضطلاع بمسؤوليّاته لأسباب عديدة ليس أقلّها فقدان التجانس بين مكوّناته. تمرّ بعدها ستّ سنوات من الفراغ، والفشل، وأخبار الفساد والتقصير المحيطة ببلديّة بيروت، قبل أن يحين موعد الانتخابات التالية، وتعود نفس العجلة التافهة للدوران، تحت نفس الشعارات، وبنفس النتائج.


هل الخوف على التمثيل المسيحي بالعاصمة مبرّر؟ الجواب أنّه فعلاً كذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نموذج طرابلس، المدينة الكريمة ذات الغالبيّة الاسلاميّة التي لا تستطيع أن تتحمّل "نصرانيّاً" واحداً (والعياذ بالله) بمجلسها البلدي، ولا امرأة واحدة، بالمناسبة. ولكنّ حلّ مسألة التمثيل المسيحي لا يكون كما حدث البارحة، أي بجمع "القوّات"، بـ "الحزب"، بـ "أمل"، بالمخزومي، بـ "التيّار"، بسائر القوى التي تضمّها لائحة الأحزاب بانتخابات بيروت، بل باعطاء الأشرفية حقّ تقرير المصير، إن صحّ التعبير، وإنشاء بلديّتين بالعاصمة، واحدة لجزئها المسيحي، والثانية لجزئها المسلم.


لماذا لا يحصل ذلك؟ لماذا يبدو أنّ ما يصحّ بالانتخابات النيابيّة لجهة إنشاء دائرتين ببيروت، لا يصحّ بالبلديّة؟ الجواب مزدوج: أوّلاً، تعلم القوى السياسيّة الاسلاميّة أنّ فائض القوّة الديموغرافي ببيروت يعطيها فائض قوّة سياسي بتعاطيها مع القوى المسيحيّة. لذلك تتمسّك القوى الإسلاميّة بشعار "وحدة العاصمة" بلديّاً. هذا الاتّجاه "الوحدوي" يصطدم بالرأي العام المسيحي الذي يرغب ببلديّة خاصّة بالأشرفيّة، ويرفض الستاتيكو الحالي الذي يجعل من الأقليّة الديموغرافيّة بالعاصمة أقليّة سياسيّة دائمة فيها. وقد ضاعف الأداء المخزي لبلديّة بيروت بعد انفجار المرفأ عام 2020 الرغبة المسيحيّة ببلديّة بالأشرفية، لأنّ الناس لمست فشل البلديّة وعجزها بعزّ الحاجة اليها. ثانياً، لا تتصدّى القوى السياسيّة المسيحيّة جديّاً لمسألة خلق بلديّتين ببيروت. تماماً، بالمناسبة، كما أنّ هذه القوى لا تتصدّى لمسألة تحويل مطار حامات إلى مطار مدني، مع أنّ تجارب الماضي غير البعيد على طريق مطار بيروت، وبالمطار نفسه، تجعل من هذه القضيّة بالذات مسألة أمن قومي، إن صحّ التعبير.


هكذا تتلاقح النزعة الأكثريّة ببيروت، مع خفّة قوى الأقليّة، لإنتاج مجالس بلديّة فاشلة تظلم أهل العاصمة بكلّ مكوّناتها. أن يرفض مسيحيّو بيروت الستاتيكو الحالي لا يعني بالضرورة أنّه ينصف مسلميها؛ بماذا استفاد هؤلاء مثلاً من أداء المجلس الأخير بعد انفجار المرفأ؟ البديل بالعاصمة واضح، ومن أجل الجميع: مجلسان بلديّان يسحبان مسألة "الحفاظ على التوازن" من التداول، ويطلبان دعم الناخبين على أساس برامج تنمويّة. وليتنافس مجلسا بيروت بعدها على الخدمة المحليّة. وليتعاونا متى أمكن. سيكون ذلك أفضل من استمرار المهزلة الحاليّة إلى ما لا نهاية. ومن يريد حقّاً خير العاصمة يسمح لمكوّناتها أن تتنفّس بحريّة، كلّ بمحيطه، بدل زجّها بزواج قسري هو أقصر طريق إلى التوتّر الأهلي الدائم، وفشل الأداء البلدي. لا أحاجج هنا طبعاً أنّ حلّ مسألة الاشتباك الطائفي ببيروت يعني حلّاً فوريّاً لكلّ المشاكل فيها. بنهاية المطاف، لا قضيّة طائفيّة ببلديّة غير مختلطة كجونية مثلاً، والأداء فيها ليس باهراً؛ مسألة الهويّة لا تختصر كلّ المسائل الأخرى. ولكنّي أحاجج بالمقابل أن لا حلّ ممكناً لأي مشكلة جديّة قبل التصدّي أوّلاً للمسألة الطائفيّة.


وتبقى الفدراليّة الإثنو-جغرافيّة هي الحلّ ببيروت. وبكلّ لبنان.